هذا الموضوع، فيه رد على الذين توسعوا في الأعذار، توسعا زاد عن الحد الشرعي والعقلي أيضاً.
فمتى تكون العبد معذورا بشروط وموانع التكفير، ومتى لا يكون معذوراً؟
يكون العبد معذوراً فيما لا يمكن إدراكه إلا بالخبر عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، وأما ما يمكن معرفته بالعقل والفطرة، فلا عذر فيه مطلقاً.
ومعرفة ذلك، والتمييز بينه، يمكن أن ندركه نحن بعقولنا وفطرنا السليمة.
فلا يعقل أن يؤمن الشخص بأن حجراً أو شجراً قادر على غوثه وإجابة دعائه.
كما لا يعقل أن يؤمن الشخص بأن هناك مخلوقاً سواء ملكاً أو جنياً أو إنسياً، عنده قوة خارقة للطبيعة، وقادر على سماع دعائه له وهو- أي: هذا المدعو من دون الله - ميت أو في أرض بعيدة، وأنه قادر غوثه وإجابة دعوته، دون أن يكون حياً وحاضراً وقادراً على إغاثتك فيما اعتاد الناس على إغاثة بعضهم البعض عليه من أمور دنياهم.
هذا مخالف للعقل، والغريب، أن أكثر من يدعي الاحتجاج بالعقل، هم من يؤمن بهذه الخرافات!
بينما الذي يجب أن تعتقده - وهو الثابت بالعقل والفطرة السليمة - في أي مخلوق، هو أنه مخلوق، حتى لو كان نبياً أو ولياً أو جنياً أو ملاكاً، وأن حدود قدراته هي حدود قدرات أي مخلوق أخر.
والدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة الزهراء رضي الله عنها: "سليني من مالي ما شئتِ، لا أغني عنكي من الله شيئا". رواه البخاري.
فبيّن لها النبي، أنه بشر، وأنه لا يقدر إلا على ما يقدر عليه المخلوقون عادة من أمور الدنيا.
وأما الشبه التي يقدمها المشركون، حتى من يدعي الإسلام منهم، من أنهم لا يعبدون معبوداتهم من دون الله إلا لتكون شفيعة لهم عند الله، فقد رد الله عليهم قولهم هذا، في سورة يونس، وأخبر أنهم مطالبون بالدليل منه هو سبحانه أو من قول نبي من أنبيائه، أنه أمرهم بذلك، فقال عز من قائل: ﴿وَیَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا یَضُرُّهُمۡ وَلَا یَنفَعُهُمۡ وَیَقُولُونَ هَـٰۤؤُلَاۤءِ شُفَعَـٰۤؤُنَا عِندَ ٱللَّهِۚ قُلۡ أَتُنَبِّـُٔونَ ٱللَّهَ بِمَا لَا یَعۡلَمُ فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَلَا فِی ٱلۡأَرۡضِۚ سُبۡحَـٰنَهُۥ وَتَعَـٰلَىٰ عَمَّا یُشۡرِكُونَ﴾ [يونس ١٨]
فدلت هذه الآية، على أن العبد الذي يعمل عملا ليس عليه دليل من كتاب الله ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه غير معذور فيه، إذ كيف يعمل عملا لم يأمره الله ولا رسوله به! ألم يسأل نفسه: من أين جاء كبرائه الذين يقلدهم دينه بهذه العبادات؟! إذا هذه المسألة مما تعرف بالعقل والفطرة السليمة، ولا عذر للمخالف فيها، بنص القرآن العظيم.
كذلك ما يقوم به مشايخ الصوفية من السحر والشعوذة والكهانة، باطلة بالعقل قبل النقل، فباعتراف جميع التائبين منهم، أنهم كي يصلوا إلى مرتبة تصبح الشياطين فيها خداما لهم، فإنهم يقومون بأعمال منافية تماما للإسلام.
فالشياطين تأتيهم في صور حسان، وتدعي أنها ملائكة مخلوقة لخدمتهم خاصة، ولكنهم يطلبون منهم مطالب تفضح حقيقتهم وبجلاء، وأنهم ليسوا سوى شياطين.
فمثلا: أحدهم يقول: لا نصل إلى مرتبة الولاية - أي: إلى مرتبة تصبح الشياطين فيها خدماً لهم - حتى ندفن القرآن ونتبول عليه!
وأخر يقول: لا نصل إلى مرتبة الولاية حتى لا نصلي العصر، ونصلي بغير وضوء، ونستبيح نكاح المحارم.
ثم الأعمال التي يقومون بها أكثرها أعمال شنيعة قبيحة، منها التفريق بين الزوج والزوجة، أو عطف الزوج على الزوجة، وجعله ضعيفاً أمامها، ملبياً لرغباتها، أشبه بالعبد معها. أو عطف فتاة على شاب لا تريده، أو إلحاق الأذى بشخص، كقتله أو إصابته بمرض أو عاهة.
فلو كان هناك شيخ صوفي استرسل معهم، واستمر، ثم ادعى أنه جاهل، أو أعتذر له بأي عذر، فلا يقبل منه هذا القول، لدلالة العقل والفطرة على قبح هذه الأعمال التي يقوم بها، فإذا كان يقرأ القرآن، قويت الحجة عليه، وإن كانت قائمة أصلا بالعقل والفطرة.
بل حتى من يأتي إلى هؤلاء السحرة، ويرى ما يقومون به من أعمال شرّيرة، غير معذور بأي حال من الأحوال، بل مؤاخذ بذلك، لأن العقل والفطرة دلت على قبح هذا العمل.
إذا دلالة العقل، تبطل ما يقوم به هؤلاء المشركون من الشرك ومن الأفعال القبيحة.
وأما الفطرة، فما من إنسان إلا وقد فطره الله تعالى على ثلاث مسائل: أن له رباً وأن ربه في السماء، وأن ربه هو الملجأ والملاذ عند النوائب. فمن خالف هذه الفطرة، متعللا ببيئته، كانت أدلة العقل قائمة عليه، لبيان خطأ ما يقوم به من الشرك والإلحاد.
ومثل ذلك: القتل والزنا واللواط والاغتصاب والسرقة والسطو والكذب وأكل أموال الناس بالباطل، كالربا والتطفيف والتحايل والتغرير ونحو ذلك، والغيبة والبهتان والنميمة، وعدم التنزه عن القاذورات الحسية والمعنوية، هذه دلالة العقل والفطرة على قبحها كاف في إقامة الحجة على العبد، لأن الله فطر الناس على قبح هذه الأعمال. فسواء جاءك مخبر بقبحها أو لم يأتك، فالحجة قائمة عليك.
عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال أناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ قال: "أما من أحسن منكم في الإسلام، فلا يؤاخذ بها، ومن أساء، أخذ بعمله في الجاهلية والإسلام".
رواه البخاري ومسلم؛ واللفظ له.
فلو كانت الحجة تقوم في الشرك والزنا واللواطة والقتل والسرقة والسطو والغيبة والبهتان والنميمة، وغيرها من الأفعال القبيحة الذميمة، لما أخذ الله الناس بما فعلوا في الجاهلية، لأنه وبزعم من يقول بأن العبد معذور بتلك الأعذار، فعنده أنهم لا يؤاخذون بما فعلوا في جاهليتهم، بحكم أنهم معذورون، وهذا خلاف الدليل والعقل والفطرة!
فهذه المسائل لا عذر فيها بالخطأ مطلقا، فلا يعذر بجهل ولا بتأويل ولا بتقليد ولا بحسن نية، لدلالة العقل والفطرة على بطلانها وقبحها، والواقع فيها مستوجب للعقوبة يوم القيامة، وإن كان لا يخلد في النار إلا من وقع في الشرك الأكبر، أو كذب بشيء مما جاء الله به ورسوله، عالما متعمداً.
ولكنه يعذر في بعضها بالنسيان أو الإكراه.
كمن يحلف بالأوثان ناسياً، وإنما وقع منه ذلك عن سبق لسان، أو يدعو ويستغيث بغير الله ناسياً، أو يكره على النطق بالكفر، وقلبه مطمئن بالإيمان، أو قام بفعل قبيح مذموم بالعقل والفطرة مكرهاً، فهؤلاء معذورون بالنسيان والإكراه.
لكن لا يقال عمّن فعل فعلا قبيحا أنه ناسي! لأن النسيان لا يدخل في ذلك، ولا يمكن إعذاره إلا بالإكراه فقط في حالة ما إذا أكره على فعل قبيحة من القبائح، فيجب وضع الأعذار في مواضعها الصحيحة.
وأما المسائل الخبرية، التي لا يمكن معرفتها إلا من جهة الخبر، ويعذر فيها العبد بالخطأ فيها.
فقد عدّ الإمام الشافعي منها: صفات الله تعالى؛ وهو لم يأتي بنص شرعي للدلالة على ذلك، إلا أني وجدت في كتاب الله تعالى وسنة النبي آيات تشير إلى إعذار المخطئ في هذا الباب، ولعله قال ذلك: لأن الشيء الذي لم يبسق لك رؤيته، لا تعرف صفته إلا بالخبر أو المشاهدة.
ولكن الإمام الشافعي لم يبيّن متى تقوم الحجة على المخالف في الصفات، هل يكفي عنده أن يقرأ القرآن، أو يلزم من ذلك أن يقرأ السنة معها، أو يلزم من ذلك كشف الشبهة عن المخالف في باب الصفات، إذا كان قد شبه عليه من قبل المتكلمين!
والصواب: أن قراءة القرآن والسنة كافية في إقامة الحجة، والعبد بفطرته يفهم معان ما يقرأ من الآيات والأحاديث الواردة في باب الصفات، ولكنه يدخل معها تأويل المحرفين من المتكلمين، فيكذب ما يعرفه هو من الكلام الظاهر البيّن، ويتبع قول هؤلاء الأفاكين.
وهنا مسألة: شخص كان معطلا ومشركاً، ثم تاب من الشرك وأقر بتوحيد الربوبية والألوهية، ولكنه أقام على التعطيل، وهو لا يعلم أن التعطيل مصدره من فلاسفة الإغريق، ويظن أنه تنزيه، لما تشربه قلبه من كلام المتكلمين، واستقباحهم لإثبات الصفات، بدعوى أنها تنقص لله تعالى، هل يعذر أو لا يعذر، مثل الشوكاني وشريعة سنكلجي والبرقعي وأشباه هؤلاء؟
والجواب: الله أعلم، أمرهم إلى الله تعالى، ولكن مثلهم لا ينظر إليه، ولا يلتفت إليه، ولا تقرأ كتبهم، ولا يرفع ذكرهم، ينسون تماماً.
أما المعطل الذي جمع الشرك مع التعطيل، أو بين له، وشرح له، ومع ذلك أبا إلا التعطيل، تكبراً عن قبول الحق، وتعصباً للسادات والكبراء، فهذا هو الذي لا يشك في أمره.
وأيضاً من المسائل الخبرية التي يعذر فيها بالخطأ، كيفية أداء العبادات، وأنها فرض من الله، فرض لازم، فإن العبد، لا يمكنه معرفة طريقة أداء العبادات التي افترضها الله عليه إلا بالخبر من الله أو رسوله، وإلا كان جاهلاً بها، فكيف يؤديها!
فمن أنكر أن الله افترض فرضاً أو أبى أن يؤدي عبادة بعد بلوغه الخبر، فقد قامت عليه الحجة.
وكذلك من أنكر أن الله حرم شيئاً، بعد بلوغ الخبر إليه، من الكتاب والسنة، فقد قامت عليه الحجة.
ويكفي في ذلك أن يعيش في بيئة مسلمة، يراهم يؤدون العبادات، فهذا كاف في بلوغه العلم بذلك، فمجرد إعراضه كاف في إقامة الحجة عليه.
وقد بعث النبي رجلاً من أصحابه ليقتل رجلا نكح زوجة أبيه، رواه مسلم. ولم يبعث له النبي هل أنت مخطئ أم لست بمخطئ، كونه يعيش وسط المسلمين، ولا شك أنهم نهوه فلم ينته، فكل من يعيش في بيئة مسلمة، فلا عذر له في شيء من أمور الدين.
إذا فشروط وموانع التكفير، إنما تنطبق على مسائل لا يمكن معرفتها إلا بالخبر عن الله وعن رسوله، ثم يلزم أن يكون في بيئة بعيدة لا يمكنه معها معرفة ذلك.
أما ما يمكن معرفته بالعقل والفطرة، فلا عذر فيه.
وهذا ما نصّت عليه الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة، يستوي في ذلك الكافر ومدعي الإسلام، لا فرق بينهما.
لأني وجدت بعض المخالفين يقول: نفرق بين الكافر الأصلي ومن ينتسب إلى الإسلام ووقع في الكفر! وهذا حقا تفريق عجيب، لا وجود له في كتاب الله ولا سنة نبيه، بل الموجود في الكتاب والسنة خلافه، لأن مشركي قريش كانوا يدعون أنهم على ملة إبراهيم، ولذلك يحجون لله تعالى وحده، ويصلون صلاة الصوفية والشيعة، وهي تلك الصلاة التي فيها رقص وغناء وتصفير وتصفيق، ويتصدقون لله ولغيره، وينذرون لله ولغيره، بل ويستغفرون الله تعالى من ذنوبهم أحياناً كثيرة، فلم يقل عنهم الله تعالى بأنهم أحناف أو مسلمون متلبسون بشرك، بل قال عنهم: مشركون. فكذلك من يدعي الإقرار بنبوة النبي محمد ويدعي الإسلام، لا يغنيه ذلك شيئا حتى يأتي به على الوجه الذي أمر الله ورسوله به.