مناقشة شروط وموانع التكفير.

قالوا: أن الجهل والإكراه والخطأ والتأويل وحسن النية والتقليد، أعذار تحول بين أهل البدع وبين تطبيق الأحكام الشرعية عليهم.

وهذه الشروط بعضها صحيح؛ ولكنهم يضعونها في غير مواضعها؛ لأن هذه الأعذار إنما تنطبق على من خالف في مسألة خفية، أو أخطأ في فهم آية أو حديث فتأولها على غير تأويلها، فلما بيّن له الحق رجع إليه وانقاد له.

أما المسائل الظاهرة، التي تدرك معرفتها بالعقل والفطرة، والتي جاء القرآن والسنة والآثار بتبيينها، وشرحها أئمة أهل السنة والجماعة المتقدمين في كتبهم، وفيما روي عنهم بالأسانيد الصحيحة والمقبولة، فكيف يمكن أن نطبق على المخالف فيها هذه الشروط، وكيف تنطبق هذه الشروط على من قرأ القرآن والسنة، وقرأ كتب أئمة أهل السنة والجماعة المتقدمين، ثم أصرّ على الخلاف وثبت على ضلاله!

وبعض هذه الشروط باطل بنص القرآن والسنة وما أجمع عليه أئمة أهل السنة المتقدمين.

هذا عدا أن جميع هذه الشروط والموانع ترجع إلى ثلاثة شروط هي: الخطأ والنسيان والإكراه.

أما الجهل والتأويل وحسن النية والقصد والتقليد فهي داخلة في باب الخطأ، فإذا ارتفع الخطأ، بتبيينه ارتفعت هذه الأعذار.

وأما الخطأ، فهو من جنس ما وقع لصاحب الدابة، عندما قال من شدّة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك. فهذا إنما أخطأ فهو لم يعني أبداً ما يقول، ولا اعتقده، وإنما أراد أن يقول: اللهم أنت ربي وأنا عبدك. ولكنه أخطأ من شدة الفرح، ولو كان صاحب الدابة يعتقد ذلك بقلبه حتى لو كان جهلا منه أو تفوه بهذا الكلام من باب المزاح والعبث أو قالها لأن أحداً أغضبه فذكره بعبوديته لله تعالى فتفوه بهذا الكلام على سبيل العناد لخصمه لكفر كفراً أكبر دون أن تقام عليه حجة أو يبين له دليل والعياذ بالله تعالى.

وأما النسيان فهو من جنس ما وقع لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، عندما أقسم باللات والعزى، فهو لم يكفر بعد إسلامه، ولا أعتقد أنها آلهة، ولكن الإقسام بها شيء قد تعوّد عليه في جاهليته، فلما أسلم أقسم بها ناسياً، وقد أرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى كفارة ذلك عندما أمره أن يقول: (لا اله الا الله) ولو كان سعد متعمدٌ لذلك لكفر الكفر الأكبر ولخرج من الإسلام كما دخل فيه.

وأما الإكراه فهو من جنس ما وقع لعمّار بن ياسر رضي الله عنه، عندما عذّبه المشركون عذاباً شديداً، وواعدوه إن هو سب الله ورسوله أن يدعوه، فلما لم يجد منهم خلاصاً إلا أن يقول ما أمروه به قال ذلك دفعاً عن نفسه، وهو كاره لذلك، مرغماً عليه، ولو شرح عمار بن ياسر بذلك صدراً ونطق به راض به لكفر الكفر الأكبر، ولخرج من الإسلام كما دخل فيه.

فهذه الحالات الثلاث، لا يؤاخذ بها العبد، رحمة من الله تعالى بعباده، وكرماً منه.

وأما باقي الشروط والموانع فترتفع بارتفاع الخطأ بتبيينه، ولا يبقى سوى العلم والتعمد والقصد وسوء النية والرغبة في الباطل.

أما أهل الأهواء والبدع والضلال، فعذروا كل من وقع في ناقض من نواقض الإسلام، حتى من قدحوا في ربوبية الله عز وجل أو ألوهيته أو أشركوا معه فيهما أحد غيره، معذورون عندهم بتلك الشروط والموانع، ويسمونهم: مسلمون متلبسون بشرك! وعذروا زنادقة الأشاعرة والماتريدية منكري صفات الباري سبحانه وتعالى، الذين تبيّن إعراضهم عن الحق، بعدما تبيّن لهم، مع كونهم قد قامت عليهم الحجج، وبينت لهم السبل، فهذه الأعذار مطاطة تتسع حتى لإبليس إن شاءوا أن يعذروه.

وإلا فهل يعقل أن يقال عن الشيعي أو الصوفي الذي يقرأ القرآن والسنة بأنه جاهل أو مخطئ أو متأول أو وقع ما وقع منه عن حسن نية وقصد أو مقلد مسكين أو مكره في ما وقع فيه من الشرك الأكبر! 

وهل يعقل أن يقال عن الجهمي أو المعتزلي أو الأشعري أو الماتريدي الذي قرأ القرآن والسنة واطّلع على كلام أئمة أهل السنة المتقدمين في الصفات، وتبيّن إعراضه، وأنه ليس لديه شبهة من كتاب الله أو سنة رسول الله، تجعله يتمسك بالتعطيل، بأنه جاهل أو مخطئ أو متأول أو وقع ما وقع منه عن حسن نية وقصد أو مقلد مسكين أو مكره! 

أو هل يعقل أن يقال عن من ترك الصلاة، أو ترك فرضاً من فروض الله عز وجل، أو أحل الحرام أو حرم الحلال، أنه جاهل أو مخطئ أو متأول أو وقع ما وقع منه عن حسن نية وقصد أو مقلد مسكين أو مكره!، بعد أن أقيمت عليه الحجة، وبلغته رسالة النبي صلى الله عليه وسلم!

قال الله تبارك وتعالى في سورة الكهف: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً )

فهل رأيتم الله عز وجل في هذه الآية عذر من وقع في الكفر عن حسن نية منه، أم ألحقه بإخوانه الكافرين!

وقال تعالى في سورة غافر: (وإذ يَتَحَاجّون في النار فيقول الضعفاء الذين اشتكبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فهل أنتم مَعْلُونَ عَنَا نصيباً من النار قال الذين اشتكبَرُوا إنّا كل فيها إنّ الله قد حَكمَ بَيْنَ العباد)

وقال تعالى في سورة سبأ: (وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَىٰ بَعْدَ إِذْ جَاءَكُم ۖ بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا ۚ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)

فهل رأيتم الله عز وجل عذر المقلدين في هذه الآيات، أم على الله يفترون!

أما احتجاجهم بفشو البدع وغلبة الباطل، فلو كان حجة، لكان حجة لمشركي العرب الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، إذ لم يبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلا بعد أن فشت البدعة في الملة الحنيفية - ملة إبراهيم - وغلب الباطل، فلم يعذرهم الله تبارك وتعالى بذلك، بل أمرهم باتباع الحق والانقياد له.

فأي مسألة لا تحتاج إلى إقامة حجة فيها، مثل توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، فهذا يكفر من خالف فيها، سواء كان متبوعاً أو تابعاً، مُقَلَّدَاً أو مُقَلِّدَاً، عالما أو جاهلاً وإن كان أعرابياً يجوب القفار، أمياً لا يعرف القراءة والكتابة.

وأي مسألة تحتاج إلى إقامة الحجة فيها، فهذا يكفر المخالف فيها بعد بيان الحجة له من الكتاب والسنة، ولا تحتاج إلى أن تنقل له أقوال العلماء فيها إلا لتزيد الحجة عليه فقط، سواء كان متبوعاً أو تابعاً، مُقَلَّدَاً أو مُقَلِّدَاً، عالما أو جاهلاً، وإن كان أعرابياً يجوب القفار، أمياً لا يعرف القراءة والكتابة.

بل الأمر عند أهل الأهواء أبعد من ذلك، فحتى لو أقيمت الحجج على أهل البدع، يبقى عذرهم بهذه الشروط والموانع قائماً لا يزول، واحتجوا على ذلك بما فعله الشيخ أحمد بن تيمية فبعد أن أقام الحجج على ملاحدة الصوفية يقول: أنا لا أكفركم؛ لأنكم عندي جهّال، ولو قلت بقولكم لكفرت. 

فإذا كانوا وبعد إقامة الحجة عليهم ببيان الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة لا يزالون جهّالاً ولا يمكن تطبيق الأحكام الشرعية عليهم، فمتى تنتفي عنهم صفة الجهل وتنطبق عليهم الشروط وتنتفي عنهم الموانع؟

إننا لا نحتاج في إقامة الحجة؛ لأن نشق القمر شقين، أو نفلق البحر فلقين، أو أن نحوّل رمال الصحراء ذهباً، أو نسقط السماء على الناس كسفا، بل يكفي أن يسمع الزائغون عن الحق بالحق والبيّنة، فإن أعرضوا بعد ذلك فقد أقيمت عليه الحجة.

عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار"

رواه أحمد ومسلم وغيرهما.

فقيّد النبي صلى الله عليه وسلم قيام الحجة بمجرّد السماع، فأين هؤلاء الذين يزعمون أنه حتى لو أقيمت الحجج على الزائغين، لا يكفّرون!

وقد حاول البعض أن يعتذر للشيخ أحمد بن تيمية بأنه ما قال ذلك؛ إلا من باب السياسة الشرعية، كما فعل بعض أئمة الدعوة النجدية، ولذلك تجد بعضهم طبّق هذه السياسة في رسائله لملاحدة الصوفية كما فعل الشيخ محمد بن عبدالوهاب وابنه الشيخ عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب، ولو افترضنا أن ابن تيمية كان يفعل ذلك حقاً من باب السياسة الشرعية، فهي سياسة خاطئة مردودة بنصّ القرآن والسنة، بل من آثارها نعرف خطأها، فكل من جاء بعد الشيخ أخذ هذه السياسة على أنها معتقد الشيخ حقاً وصدقاً

وكيف والله تبارك وتعالى يقول: (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين)

وعن أبي واقد الليثي أن الحارث بن مالك قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، وللمشركين سدرة يعكفون عندها ينوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر، إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون) لتركبن سنن من كان قبلكم"

رواه أحمد والترمذي والنسائي، وابن إسحاق في السيرة.

فمن جعل هذه الشروط والموانع حائلاً يحول بين تكفير من قامت البيّنة بكفره من أهل البدع سواء كان شيعياً أو صوفياً أو أشعرياً أو ماتريدياً أو إباضياً، أو تاركاً للصلاة، أو مستحلاً لترك فريضة من فرائض الله، أو مستحلاً لما حرم الله، فهو إما جاهل مقلد يعلَّم ويبين له، وإما أنه صاحب هوى يريد أن يخلط الكفر بالإسلام والباطل بالحق، والله لا يهدي القوم الظالمين.