أما إن كان لا يصلي مطلقاً أو أكثر وقته لا يصلي فهذا كافر مستحلا كان أو غير مستحل ويستتاب وإلا ضربت عنقه.
والدليل:
عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "العهد الذي بيننا وبين الصلاة فمن تركها فقد كفر".
صحيح.
وعن جابر بن عبدالله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنّ بين الرجل وبين الشرك ترك الصلاة".
صحيح.
قلت: وتخصيص النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة هنا، دليل واضح على أن الكفر المراد به هنا، هو الكفر الأكبر، لأن ترك الفرائض والوقوع في المحرمات التي دون شرك، من غير جحود أو استحلال، كفر أصغر، فلا داعي لتخصيص الصلاة بذلك لو كان مراد النبي بالكفر في هذا الحديث الكفر الأصغر، فتبيّن بذلك أن الكفر المراد به في الحديث، الكفر الأكبر.
وعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: أن النبي ذكر الصلاة يوما فقال: "من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف"
صحيح.
قلت: وحشر النبي صلى الله عليه وسلم لتارك الصلاة في زمرة قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف، دليل على أن كفره من جنس كفرهم، وهو الكفر الأكبر، وإلا لكان محشوراً مع غيره من عصاة المسلمين، الذين سوف يلجون النار، لو كان تركه للصلاة ليس كفراً.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغير إذا طلع الفجر وكان يستمع الأذان فإن سمع أذانا أمسك وإلا أغار"
صحيح
قلت: وفي هذا الحديث، يتبيّن لنا، أن تارك الصلاة حلال الدم، لأنه على قول من قال بأن الشهادتين تكفي في الحكم على العبد بالإيمان والإسلام، لما أغار النبي صلى الله عليه وسلم، بمجرد أنه لم يسمع الأذان، ولبعث إليهم يسألوهم: هل يشهدون الشهادتين أم لا!
وعن عبدالله بن شقيق رحمه قال: "كان أصحاب رسول الله لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة".
وفي رواية أصحّ: "ما علمنا شيئاً من الأعمال قيل تركه كفر إلا الصلاة".
فكأن هذا القول هو رأي عبدالله بن شقيق، لا أنه إجماع من الصحابة، خصوصاً أنه لم يلتقي جميع الصحابة حتى يسمع قولهم في هذه المسألة، ولكنه لم يرى ممن لقيهم من الصحابة ومن إخوانه من التابعين خلافاً في كفر تارك الصلاة.
وعن المسور بن مخرمة، أنه دخل على عمر بن الخطاب من الليلة التي طعن فيها، فأيقظ عمر لصلاة الصبح، فقال عمر: "نعم، ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة". فصلى عمر، وجرحه يثعب دما.
صحيح.
وعن عبدالله بن مسعود قال: "من لم يصلّ فلا دين له"
صحيح.
قلت: وهذا فيه بيان جليّ، على أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعبدالله بن مسعود، يريان كفر تارك الصلاة كفراً أكبر، وهذا يعضد القول، بأن كفر تارك الصلاة الكفر الأكبر، محلّ إجماع من الصحابة.
ويشهد على كفر تارك الصلاة، أن الله تبارك وتعالى لم يأذن لأحد بتركها، وإن كان على فراش الموت، حتى لو يومئ لها إيماءً ويصلِّي إشارةً. ولم يرخّص لأحد في تركها، كما رخّص في الزكاة والصيام والحج.
فجعل الصلاة صنو التوحيد. فكما أن التوحيد لا يرخّص لأحد في تركه، فكذلك الصلاة، لا يرخّص لأحد في تركها.
وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدواوين عند الله عز وجل ثلاثة، ديوان لا يعبأ الله به شيئا، وديوان لا يترك الله منه شيئا، وديوان لا يغفره الله، فأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك بالله قال الله عز وجل إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئا فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه من صوم يوم تركه أو صلاة تركها فان الله عز وجل يغفر ذلك ويتجاوز ان شاء وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئا فظلم العباد بعضهم بعضا القصاص لا محالة".
فهذا حديث ضعيف الإسناد، ولكن ضعفه يسير، وقد رواه أحمد بن حنبل، ولم يأخذ به كثير من أئمة السنة وحكموا أن من ترك صلاة واحدة فقط خلع ربقة الإسلام من عنقه، وعليه التوبة وتجديد إسلامه.
وبعض أئمة السنّة غلا حتى قال من تركها حتى يخرج وقتها من غير عذر فهو كافر! وهذا باطل ترده النصوص الشرعية.
والدليل على ذلك:
عن أبي ذر رضي الله عنه، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها أو يميتون الصلاة عن وقتها؟ قال: قلت: فما تأمرني؟ قال: صل الصلاة لوقتها فإن أدركت القوم وقد صلوا كنت قد أحرزت صلاتك، وإلا كانت لك نافلة".
رواه مسلم.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه ستكون عليكم أمراء يؤخرون الصلاة عن ميقاتها ويخنقونها إلى شرق الموتى فإذا رأيتموهم قد فعلوا ذلك، فصلوا الصلاة لميقاتها، واجعلوا صلاتكم معهم سبحة".
رواه مسلم.
فلو كانوا كفاراً بتأخيرهم الصلاة حتى يخرج وقتها، لما صحّت الصلاة خلفهم، ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالصلاة خلف كافر، بل لنهاه عن ذلك، وأخبرهم بأنهم ارتدوا عن الإسلام.
وهذا يدل على بطلان ما ذهب إليه الإمام عبدالله بن المبارك رحمه الله عندما قال: "من قال أصلي غداً فهو أكفر عندي من حمار".
بل إن إسحاق بن راهوية تمادى، عندما قال: قد صح عن رسول الله أن تارك الصلاة كافر" ثم قال: "وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي إلى يومنا هذا: أن تارك الصلاة عمدًا من غير عذر، حتى يذهب وقتها؛ كافر".
فقوله: أنه صح عن النبي أن تارك الصلاة كافر، وأن هذا رأي أهل العلم من لدن النبي إلى يومه. صحيح.
وأما قوله: "حتى يذهب وقتها كافر" فهذا الخطأ البيّن، والقول الذي لا أساس له من الصحة، وقد بيّنت الأحاديث الدالة على بطلان هذا القول، بل إن الإمام الشافعي، صرّح في كتابه الأم، بأنه ليس بكافر، فقال: "لو أن رجلاً ترك الصلاة حتى يخرج وقتها كان قد تعرض شراً إلا أن يعفو الله".
فقول الشافعي: "إلا أن يعفو الله" دليل على أن تارك الصلاة متعمداً حتى يخرج وقتها، ليس بكافر عنده، بل هو عاص، وتحت مشيئة الله تعالى، فتبيّن بذلك بطلان قول ابن راهوية، في ادعاءه الإجماع على ذلك.
وقد احتج بعض العلماء على عدم كفر تارك الصلاة، بما رواه عبادة بن الصامت قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ، فَمَنْ جَاءَ بِهِنَّ لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ ، كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ، إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّة"
صحيح.
قلت: وهذا الحديث بهذا النص سقط منه حرف، يدل على هذا ما جاء في رواية أخرى لهذا الحديث ذكرها أحمد وأبو داؤد جاء فيها ما نصه: "خَمْسُ صَلَوَاتٍ افْتَرَضَهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ أَحْسَنَ وُضُوءَهُنَّ وَصَلَّاهُنَّ لِوَقْتِهِنَّ وَأَتَمَّ رُكُوعَهُنَّ وَخُشُوعَهُنَّ كَانَ لَهُ عَلَى اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَيْسَ لَهُ عَلَى اللَّهِ عَهْدٌ، إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ".
فقوله: "لم يضيع منهن شيئاً". وقوله: "مَنْ أَحْسَنَ وُضُوءَهُنَّ وَصَلَّاهُنَّ لِوَقْتِهِنَّ وَأَتَمَّ رُكُوعَهُنَّ وَخُشُوعَهُنَّ". ليس المراد به تارك الصلاة، وإنما المراد به من انتقص من شروطها أو أركانها أو واجباتها، فذلك عاصٍ مستحقٌ للعقوبة، وفي دليل على أن من أخر الصلاة عن وقتها، فليس بكافر، إنما هو عاصٍ، خلافاً لمن قال بكفره من أئمة السنة.
والله اعلم وأحكم.