حديث أهل الأعذار

ورد في بعض الأحاديث، أن ثمَّة أهل أعذار يوم القيامة، كلّهم يُدلي بعذره أمام الله تعالى، فيمتحنهم الله تعالى في عرصات يوم القيامة، فمن أطاع فقد نجا، ومن عصى فقد هلك. 

وسوف نعرض هذه الأحاديث، ونقوم بغربلتها، لمعرفة مدى صحتها، وقيمة الاحتجاج بها.

فالحديث الأول:

حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا معاذ بن هشام، قال: حدثني أبي، عن قتادة، عن الأحنف بن قيس، عن الأسود بن سريع، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "أربعة يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع شيئا، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة، فأما الأصم فيقول: رب، لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئا، وأما الأحمق فيقول: رب، لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر، وأما الهرم فيقول: رب، لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئا، وأما الذي مات في الفترة فيقول: رب، ما أتاني لك رسول، فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه، فيرسل إليهم أن ادخلوا النار، قال: فوالذي نفس محمد بيده، لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما ".

رواه أحمد والطبراني في الكبير.

وسنده ضعيف، لانقطاعه، قتادة: وهو ابن دعامة السدوسي مدلس وقد عنعنه، ثم إن سماعه من الأحنف بن قيس مستبعد، لأنه ولد في البصرة سنة (٦٠هـ) على أحد الأقوال، وتوفي الأحنف سنة (٦٧هـ) على أصح الأقوال. 

وفيه: معاذ بن هشام: وهو الدستوائي، مختلف فيه، فقد روى له الشيخان البخاري ومسلم، وذكره البخاري في تواريخه، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، ووثقه ابن معين مرة، وقال مرة: صدوق، ليس بحجة، وقال مرة: لم يكن بالثقة، وتوقف فيه أبو داود، وقال: كان يحيى لا يرضاه. والظاهر من حاله أنه صدوق في الحديث، إلّا أنه كان قدريّاً، لذلك أسقط بعض أهل العلم روايته، ولم يرتضوه.

وقد اختلف عن معاذ بن هشام فيه. 

فروي عنه هنا عن قتادة، عن الأحنف، عن الأسود، به مرفوعا. 

وروي عنه مرّة عن قتادة، عن الأسود بن سريع، به، مرفوعا، فأسقط من الإسناد الأحنف بن قيس. 

وروي عنه مرة عن قتادة، عن الحسن، عن الأسود بن سريع، به. فأدخل الحسن في الإسناد بدل الأحنف، والحسن لم يسمع من الأسود.

وروي مرة عنه، عن قتادة عن الحسن- وهو البصري- عن أبي رافع، عن أبي هريرة، به مرفوعا. وهذا الإسناد أصحّ، وهو ضعيف لعنعنة قتادة.

الحديث الثاني:

حدثنا علي، حدثنا معاذ بن هشام، قال: حدثني أبي، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، مثل هذا غير أنه قال في آخره: "فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما، ومن لم يدخلها يسحب إليها".

رواه أحمد.

وهو ضعيف لعنعنة قتادة، وهو مدلّس.

الحديث الثالث:

حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، عن أبي هريرة قال إذا كان يوم القيامة جمع الله أهل الفترة والمعتوه والأصم والأبكم والشيوخ الذين لم يدركوا الإسلام ثم أرسل إليهم رسولا أن ادخلوا النار فيقولون كيف ولم تأتنا رسل قال وأيم الله لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما ثم يرسل إليهم فيطيعه من كان يريد أن يطيعه‏.‏ قال أبو هريرة اقرؤوا إن شئتم ‏(‏وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا‏).

حديث ضعيف.

رواه الطبري، عن قتادة مرسلاً، فإن قتادة لم يلقى أبا هريرة، وجميع رجال السند ثقات.

وقال الطبري أيضاً: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة نحوه.

والقاسم بن حسن، مجهول. ويقال هو القاسم بن حسن الهمداني أبو محمد، لم يوثّقه سوى الخطيب البغدادي ومن تابعه، وليس توثيق الخطيب ولا أحكامه بشيء.

 والحسين بن داود، ضعيف، لم يكن بذاك، ليس بثقة.

 وأبو سفيان، محمد بن حميد البصري، حسن الحديث.

الحديث الرابع:

حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا جرير بن عبد الحميد عن ليث بن أبي سليم عن عبد الوارث، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يؤتى بأربعة يوم القيامة بالمولود والمعتوه، ومن مات في الفترة وبالشيخ الفاني كلهم يتكلم بحجته فيقول الله تبارك وتعالى لعنق من جهنم أحسبه قال: ابرزي فيقول لهم: إني كنت أبعث إلى عبادي رسلا من أنفسهم وإني رسول نفسي إليكم ادخلوا هذه فيقول من كتب عليه الشقاء: يا رب أتدخلناها ومنها كنا نفرق؟ ومن كتبت له السعادة فيمضي فيقتحم فيها مسرعا قال: فيقول الله: قد عصيتموني وأنتم لرسلي أشد تكذيبا ومعصية قال: فيدخل هؤلاء الجنة ويدخل هؤلاء النار.

رواه البزار.

وسنده ضعيف. 

فيه ليث بن أبي سليم، ضعيف، لا يحتج به، مضطرب الحديث، ليّن الحديث، لا يشتغل به، ليس بحافظ، سيء الحفظ، كثير الغلط، منكر الحديث.

وفيه عبدالوارث الأنصاري، ضعيف، منكر الحديث، مجهول.

وفيه يوسف بن موسى، صدوق حسن الحديث.

الحديث الخامس:

أخبرنا محمد بن عبد الملك وعبيد بن محمد، قالا: حدثنا عبد الله بن مسرور، قال: حدثنا عيسى بن مسكين، قال: حدثنا محمد بن سنجر، قال: حدثنا سعيد بن سليمان، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى بالهالك في الفترة والمعتوه والمولود فيقول الهالك في الفترة لم يأتني كتاب ولا رسول ويقول المعتوه أي رب لم أجعل لي عقلا أعقل به خيرا ولا شرا‏.‏ ويقول المولود لم أدرك العمل، قال: فيرفع لهم‏؟‏ فيقال لهم: أردوها، أو قال: ادخلوها، فيدخلها من كان في علم الله سعيدا لو أدرك‏ العمل،‏ ويمسك عنها من كان في علم الله شقيا لو أدرك العمل، فيقول تبارك وتعالى وإياي عصيتم فكيف برسلي بالغيب.

رواه ابن عبدالبر في التمهيد والاستذكار والهيثمي في مجمع الزوائد.

في إسناده عطية العوفي، ضعيف، ليس بالذي يعتمد عليه، ليّن، ليس بحجة، مضطرب الحديث.

وفي إسناده فضيل بن مرزوق، مختلف فيه، البعض يضعفه وآخرون يوثقونه.

وهذا الحديث يزعم البعض أنه في مسند البزار ولم أجده.

الحديث السادس:

حدثنا أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي، ثنا محمد بن المبارك الصوري، ح وحدثنا أحمد بن المعلى الدمشقي، ثنا هشام بن عمار قالا: ثنا عمرو بن واقد، عن يونس بن ميسرة بن حلبس، عن أبي إدريس، عن معاذ بن جبل، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يؤتى يوم القيامة بالممسوح عقلا وبالهالك في الفترة، وبالهالك صغيرا، فيقول الممسوح عقلا: يا رب، لو آتيتني عقلا ما كان من آتيته عقلا بأسعد بعقله مني، ويقول الهالك صغيرا: يا رب لو آتيتني عمرا ما كان من آتيته عمرا بأسعد من عمره مني، ويقول الهالك في الفترة: يا رب لو جاءني منك رسول ما كان بشر أتاه منك عهد بأسعد بعهدك مني، فيقول الرب تعالى: فإني آمركم بأمر أفتطيعوني؟ فيقولون: نعم وعزتك يا رب، فيقول: اذهبوا فادخلوا جهنم - ولو دخلوها لما تضرهم شيئا - فيخرج عليهم فرائض من النار يظنون أنها قد أهلكت ما خلق الله من شيء، ثم يأمرهم الثانية فيرجعون كذلك، فيقول الرب عز وجل: خلقتكم بعلمي، وإلى علمي تصيرون، فتأخذهم النار".

رواه الطبراني في الكبير.

فيه: عمرو بن واقد، متروك الحديث، ضعيف الحديث، منكر الحديث، ليس بشيء.

وفيه: أحمد بن المعلى، صدوق حسن الحديث.

الحديث السابع:

فحدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن سنان القزاز، ثنا إسحاق بن إدريس، ثنا أبان بن يزيد، ثنا يحيى بن أبي كثير، ثنا أبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي، حدثني أبو أسماء الرحبي، أن ثوبان حدثه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: إذا كان يوم القيامة جاء أهل الجاهلية يحملون أوثانهم على ظهورهم فيسألهم ربهم فيقولون ربنا لم ترسل إلينا رسولا ولم يأتنا لك أمر ولو أرسلت إلينا رسولا لكنا أطوع عبادك فيقول لهم ربهم أريتكم أن أمرتكم بأمر تطيعوني فيقولون نعم فيأمرهم أن يعمدوا إلى جهنم فيدخولها فينطلقون حتى إذا دنوا منها وجدوا لها تغيظا وزفيرا فرجعوا إلى ربهم فيقولون ربنا أجرنا منها فيقول لهم الم تزعموا أني أن أمرتكم بأمر تطيعوني فيأخذ على ذلك مواثيقهم فيقول اعمدوا إليها فادخلوها فينطلقون حتى إذا رأوها فرقوا ورجعوا فقالوا ربنا فرقنا منها ولا نستطيع أن ندخلها فيقول ادخلوها داخرين فقال النبي صلى الله عليه وسلم لو دخلوها أول مرة كانت عليم بردا وسلاما. 

قال الحاكم صحيح على شرط البخاري ومسلم‏.‏

فيه: أبو أسماء الرحبي، لم يوثقه سوى العجلي، وروى له البخاري في الأدب المفرد فقط، فدلّ هذا على أنه حسن الحديث عند البخاري.

وفيه: إسحاق بن إدريس، ضعيف، كان يسرق الحديث، ليس بشيء، واهي الحديث، ضعيف الحديث، متروك الحديث، منكر الحديث، متهم بالوضع، كذاب يضع الحديث، لا يكتب حديثه.

وفيه: محمد بن سنان: في أمره نظر، كذّاب، ليس ثقة.

قلت: فتبيّن لي مما سبق، أن جميع الأحاديث التي رويت عن أهل الفترة لا تصحّ أسانيدها، والذي يظهر لي – والعلم عند الله وحده – أن هذا الحديث، ليس من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو من قول أبي هريرة رضي الله عنه، ليفسّر به قوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا)

والدليل على ذلك:

أن أبا هريرة، في بعض روايات هذا الحديث، أعقب ذلك بقوله: اقرؤوا إن شئتم ‏(‏وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا‏) اهـ فكأنه أراد أن يثبت رأيه بهذه الآية، ولو كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما احتاج إلى ذلك.

فوهم الرواة في رفعه، وتلقفه الضعفاء والمتروكون، فنسجوا على منواله أخبارا نحلوها من شاءوا من الصحابة.

والله وحده أعلم وأحكم.

وهذا الحديث لم يسلم من المعارض، فهناك أحاديث أصحّ منه سنداً، ومتواترة معناً، تفيد على خلاف ما دلّ عليه حديث أهل الأعذار.

فالدليل الأول:

هو قوله تعالى: {وَإِذ أَخَذَ رَبُّكَ مِنۢ بَنِیۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِم ذُرِّیَّتَهُم وَأَشهَدَهُم عَلَىٰۤ أَنفُسِهِم أَلَستُ بِرَبِّكُمۖ قَالُوا۟ بَلَىٰ شَهِدنَاۤۚ أَن تَقُولُوا۟ یَومَ ٱلقِیَـٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَن هَـٰذَا غَـٰفِلِینَ أَو تَقُولُوۤا۟ إِنَّمَاۤ أَشرَكَ ءَابَاۤؤُنَا مِن قَبلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّنۢ بَعدِهِمۖ أَفَتُهلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلمُبطِلُونَ} [الأعراف]

فقوله تعالى: {أَن تَقُولُوا۟ یَومَ ٱلقِیَـٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَن هَـٰذَا غَـٰفِلِینَ أَو تَقُولُوۤا۟ إِنَّمَاۤ أَشرَكَ ءَابَاۤؤُنَا مِن قَبلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّنۢ بَعدِهِمۖ أَفَتُهلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلمُبطِلُونَ} 

دليل صارخ، على الميثاق الأول، حجّة على الخلق سواء بعث الرُسُل أم لم يبعثوا، لأنه لم يعذرهم في هذه الآية، ولا في غيرها من الآيات، بالغفلة، أي: بالجهل، وعدم معرفة ما يريده الله منهم، وانشغالهم بأمور دنياهم، ولا عذرهم بتقليد آبائهم وساداتهم وكبرائهم، وإنما يحتج من يحتج بوجود أهل الفترة، بهذه العلل، وقد أسقطها الله تعالى، فتبيّن أنه لا وجود لما يسمّى بأهل الفترة.

ومن قال نسيت الميثاق، فالنسيان هنا لا قيمة له شرعاً، لأن الله الذي أخذ الميثاق على عباده، كان يعلم أن الناس سوف ينسون هذا الميثاق، ومع ذلك، لم يعذرهم بهذا النسيان، ولكنه ورحمة منه، تفضّل على عباده بأن يذكرهم هذا الميثاق، بواسطة رسله، ولو كان النسيان حجة في ذلك، ما كان في أخذ الله تعالى الميثاق على خلقه من حاجة، ولا في الاحتجاج به عليهم وإن لم يبعث عليهم نبي قيمة.

الدليل الثاني:

أن الله تعالى ذكر أنه أرسل النبي صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، قال تعالى: {وَمَاۤ أَرسَلنَـٰكَ إِلَّا رّحْمّةً لِّلعَـٰلَمِینَ} [الأنبياء] فإذا كان النبي بُعِث رحمة للعالمين، فإن عدم بعث النبي صلى الله عليه وسلم عذاب من الله للعالمين، وبالتالي يتبين، أنه لو لم يبعث النبي، فإن المشركين والفاسدين، محاسبون على اعتقاداتهم وأفعالهم، ولكن بناء على من يدّعي وجود أهل الفترة، فإن النبي لم يبعث رحمة للعالمين، لأنه ليس ثمة عذاب أصلاً سوف يقع على من لم يبعث عليهم نبي لا في الدنيا ولا في الأخرة، حتى يبعث عليهم نبيّ، أو يمتحنهم الله في العرصات، كما ظنوا.

الدليل الثالث:

أن الله تعالى قال: {وَلَو عَلِمَ ٱللَّهُ فِیهِم خَيْرَاً لَّأَسمَعَهُمۖ وَلَو أَسمَعَهُم لَتَوَلَّوا۟ وَّهُم مُّعرِضُونَ} [الأنفال] فدلّ هذا على أن الله قد يترك الأمم على شركها، لأنه سبق في علمه أنهم لا يؤمنون، لذلك تجد أمم وأجيال عاشوا وهلكوا على الشرك، لم يبعث الله تبارك وتعالى إليهم رسولاً ولا داعية، لما سبق في علمه سبحانه أنهم لا يؤمنون، وأنهم حطب جهنم لها داخرون، وفي هذا دليل على أن الحجة ليست معلّقة بإرسال الرسل.

الدليل الثالث:

عن عبدالله بن مسعود قال: قال أناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ قال: "أما من أحسن منكم في الإسلام، فلا يؤاخذ بها، ومن أساء، أخذ بعمله في الجاهلية والإسلام".

رواه البخاري ومسلم.

والشاهد من الحديث، أن النبي قال: "ومن أساء، أخذ بعمله في الجاهلية والإسلام" فلو كان المخطئ لا يؤاخذ بما فعل قبل أن يبلّغه مبلغ، لما أخذ الله تعالى المشركين بما فعلوا في الجاهلية، وإذا كان الإنسان في الجاهليّة يؤخذ بالقتل والسرقة والزنا وسيء الأخلاق، ونحو ذلك، فكيف لا يؤاخذ بالشرك، الذي هو أعظم الجرائم، وأشنع المعاصي.

الدليل الرابع:

عن زيد بن ثابت قال: ينما النبي صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النجار على بغلة له ونحن معه، إذ حادت به فكادت تلقيه، وإذا أقبر ستة، أو خمسة، أو أربعة، فقال: من يعرف أصحاب هذه الأقبر؟ فقال رجل: أنا، قال: فمتى مات هؤلاء؟ قال: ماتوا في الإشراك، فقال: إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا، لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه.

والشاهد من الحديث، أن النبي أخبر أن هؤلاء المشركين يعذبون في قبورهم، مع أنهم ماتوا قبل أن تبلغهم دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فلو كان الجاهل لا يؤاخذ بما فعل في جاهليّته لما عذّب هؤلاء المشركين، ولأُرجِئُوا إلى يوم القيامة.

الدليل الخامس:

أن أقوى سلاح بيد إبليس ليغويهم ويوقعهم في الكفر والشرك هو الجهل، فلو كان الجهل عذراً للعباد، ما كان لإبليس حاجة إلى تجهيل الناس، فتبيّن أن الجهل ليس عذراً.

وإنما يعذر العبد بالخطأ والنسيان وما استكره عليه، والخطأ والنسيان، إنما يراد به ما يقع من العبد على وجه السهو، كما فعل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، عندما أخطأ فحلف باللات والعزّى ناسياً، فمثل هذا لا يؤاخذ، أما من حلف متعمّداً فهذا يؤاخذ، وإن زعم أنه جاهل. وكذلك مثل صاحب الدابة، الذي قال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدّة الفرح، فهذا لم يرد أن يقول ذلك، ولكنه أخطأ من شدّة الفرح، فلا يؤاخذ بذلك، ولكن من قالها متعمداً، فهذا لا شك أنه يؤاخذ، وإن زعم أنه جاهل.

الدليل السادس:

عن أنس بن مالك قال: "أن رجلا قال: يا رسول الله، أين أبي؟ قال: في النار، فلما قفى دعاه، فقال: إن أبي وأباك في النار".

رواه مسلم.

فهذا حديث صحيح، يثبت أن من مات قبل بعثة النبي، فهو في النار، مع أن والد النبي - حسب اعتقاد من يدّعي وجود أهل الفترة - مات في فترة من الرُسُل!

الدليل السابع:

عن أبي هريرة رضي الله عنه - وهو الشخص الذي اُعْتُمِد عليه من يزعم وجود أهل الفترة - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي".

رواه مسلم.

وهو حديث صحيح، يدل على أن من مات قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو في النار، لأن الله تعالى نهاه عن الاستغفار لها.

الدليل الثامن:

ما رجّحته في خبر أطفال المشركين، الذين ماتوا قبل أن تعرب ألسنتهم، وأنهم من خيار الناس، لأنهم ماتوا على الفطرة، التي فطر الله الناس عليها، وهو حديث صحيح، وهذه نصوص صريحة تثبت أن الأطفال من أهل الجنّة، وأنهم لا يؤاخذون إلّا بما ماتوا عليه، لا بما يعلمه الله تعالى بما سوف يقع منهم إذا استمرت بهم الحياة، وهذا يتعارض مع ما ورد في حديث أهل الأعذار، من أن الأطفال يمتحنون في العرصات.

الدليل التاسع:

لو صحّ أن هناك أهل أعذار، فأكثر الناس يعتبرون من أهل الأعذار، وبهذا يكون تُسْعون بالمائة من الناس من أهل الأعذار، والعشر أو نصف العشر، أو أقلّ من ذلك، ليسوا من أهل الأعذار، فقد علم أنه مرّت أمم وأجيال، وهم أكثر الناس، ولم يبعث فيهم نذير، وهذا يتعارض مع كون الله تبارك وتعالى جعل هذه الدار، دار ابتلاء وامتحان، فلم تعد حسب قول من يدّعي وجود أهل الأعذار، دار ابتلاء وامتحان سوى لنزر يسير جداً من الناس! وهذا لا يقول به من أعطي مسحة من علم.

لذلك رأى بعض أهل العلم، أن أحاديث أهل الأعذار، إن صحّت، فإنما يراد بها من لم يدُن لله تعالى بِدين، وأما من اتخذ من الشرك ديناً فلا عذر له، ومن اساء فلا عذر له، لذلك لم يُشَر في الأحاديث إلى أن أهل الأعذار كانوا مشركين، وإنما أُشير إلى أنهم مشركون في حديث المروي عن ثوبان، وهو ضعيف جدّاً، وفوق ذلك ليس فيه إعذار للمشركين، بل فيه أن امتحانهم إنما هو تحصيل حاصل، وهو لتنقطع حجتهم، ويدخلون النار.

والأرجح أنه ليس هناك ما يسمّى بأهل أعذار، وأن هذا الحديث إن صحّ وهو لم يصح، إنما هو رأي أبي هريرة واجتهاده، ليتأول بذلك قوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا).

والله أعلم وأحكم.