حكم الخروج على الحاكم الذي يحكم بلاد المسلمين

الحاكم لا يخلو من أن يكون مسلماً أو كافراً.

وكلاهما لا يخلو من أن يكون عادلاً أو ظالماً.

وكلاهما لا يخلو من أن يكون قويّاً أو ضعيفاً.

فأما المسلم العادل القوي، فلا يجوز الخروج عليه، والخارج عليه ظالم باغ آثم.

وأما المسلم الظالم القوي فلا يجوز الخروج عليه حفاظاً على وحدة المسلمين ولأن في الخروج عليه مفاسد أعظم من الخروج عليه، فظلمه أهون من سفك الدماء وترميل النساء وتأتيم الأطفال، وضياع الأمن، واطماع الكفار في بلاد الإسلام، كما أن قوته للمسلمين وظلمه لهم إنما يلحقهم في بعض شؤونهم، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الخروج على الحاكم الجائر.

وأما الكافر العادل القوي والكافر الظالم القوي، فلا يجوز الخروج عليهما، لا لحرمة الخروج عليهما، فليس لهما حرمة، بل لكون الخروج عليهما يجر إلى مفاسد عظيمة، وقد لا يحصل المسلمون من خروجهم عليهم إلا على ما يرجونه من مصالح، فيكون خروجهم عليهم مفسدة كله، ما لم تكن لهم قوة تكافئ قوة هذا الحاكم أو أقوى منه، فعندئذ يستعينون بالله ويخرجون عليه، وأما عدا ذلك فلا.

وأما المسلم العادل الضعيف، فلا يجوز الخروج عليه، وإنما يوظف معه من الوزراء والمستشارين من يقوونه ويأزرونه برأيهم وتشجيعهم، وإن طلب منه أن يتنحى وتنحى هو بإرادته، وعيّن حاكم مسلم قوي عادل، بدون حدوث أي فتنة، فلا بأس بذلك.

وأما المسلم الظالم الضعيف والكافر الظالم الضعيف، فيجب الخروج عليهما وإزاحتهما عن الحكم، لضعفهما وجورهما وكفر الكافر، وإني لأخشى إن لم يخرج عليهما المسلمون، أن ينزل الله على المسلمين نقمته وعذابه.

فإن قال قائل: كيف اجزت الخروج على الحاكم المسلم الظالم الضعيف، والنبي نهى عن الخروج على الحكام المسلمين دام أنهم لم يأتوا بكفر بواح؟

فالجواب: إنما نهى النبي عن الخروج على الحكام الأقوياء، درءً للفتنة، ولكون ما سوف يقع من المفاسد أعظم من المصالح التي سوف يجنيها المسلمون من الخروج عليهم، والحاكم المسلم الضعيف قد أمنت الفتنة منه، كما أن ضعفه مع ظلمه وجوره وفسقه يضر بمصالح المسلمين في داخل بلادهم وخارجها، فداخل بلادهم ينتشر الخوف والقتل والسرقة والفسق والفجور من شرب الخمور والزنا وغير ذلك، وخارج البلاد يطمع الكفار في بلاد المسلمين ويغريهم بها، زيادة على ما يلحق المسلمين منه من مضرة بسبب ظلمه وجوره، فالحاكم المسلم الجائر الضعيف لا خير فيه على كل حال، فوجب الخروج عليه وخلعه واستبداله بمن هو خير منه وأنفع للمسلمين.

وليس الخروج على الحاكم مسألة اعتباطية أو مباحة لكل أحد، وإنما يرجع في ذلك لأهل الحل والعقد، من رجال السياسة والدين وشيوخ القبائل والقرى فقط، أما العامة والدهماء فلا يجوز لهم ذلك.

والله وحده أعلم وأحكم.

حكم تارك الصلاة

أما إن كان لا يصلي مطلقاً أو أكثر وقته لا يصلي فهذا كافر مستحلا كان أو غير مستحل ويستتاب وإلا ضربت عنقه.

والدليل:

عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "العهد الذي بيننا وبين الصلاة فمن تركها فقد كفر".

صحيح.

وعن جابر بن عبدالله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنّ بين الرجل وبين الشرك ترك الصلاة".

صحيح.

قلت: وتخصيص النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة هنا، دليل واضح على أن الكفر المراد به هنا، هو الكفر الأكبر، لأن ترك الفرائض والوقوع في المحرمات التي دون شرك، من غير جحود أو استحلال، كفر أصغر، فلا داعي لتخصيص الصلاة بذلك لو كان مراد النبي بالكفر في هذا الحديث الكفر الأصغر، فتبيّن بذلك أن الكفر المراد به في الحديث، الكفر الأكبر.

وعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: أن النبي ذكر الصلاة يوما فقال: "من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف"

صحيح.

قلت: وحشر النبي صلى الله عليه وسلم لتارك الصلاة في زمرة قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف، دليل على أن كفره من جنس كفرهم، وهو الكفر الأكبر، وإلا لكان محشوراً مع غيره من عصاة المسلمين، الذين سوف يلجون النار، لو كان تركه للصلاة ليس كفراً.

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغير إذا طلع الفجر وكان يستمع الأذان فإن سمع أذانا أمسك وإلا أغار"

صحيح

قلت: وفي هذا الحديث، يتبيّن لنا، أن تارك الصلاة حلال الدم، لأنه على قول من قال بأن الشهادتين تكفي في الحكم على العبد بالإيمان والإسلام، لما أغار النبي صلى الله عليه وسلم، بمجرد أنه لم يسمع الأذان، ولبعث إليهم يسألوهم: هل يشهدون الشهادتين أم لا!

وعن عبدالله بن شقيق رحمه قال: "كان أصحاب رسول الله لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة".

وفي رواية أصحّ: "ما علمنا شيئاً من الأعمال قيل تركه كفر إلا الصلاة".

فكأن هذا القول هو رأي عبدالله بن شقيق، لا أنه إجماع من الصحابة، خصوصاً أنه لم يلتقي جميع الصحابة حتى يسمع قولهم في هذه المسألة، ولكنه لم يرى ممن لقيهم من الصحابة ومن إخوانه من التابعين خلافاً في كفر تارك الصلاة.

وعن المسور بن مخرمة، أنه دخل على عمر بن الخطاب من الليلة التي طعن فيها، فأيقظ عمر لصلاة الصبح، فقال عمر: "نعم، ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة". فصلى عمر، وجرحه يثعب دما.

صحيح.

وعن عبدالله بن مسعود قال: "من لم يصلّ فلا دين له"

صحيح.

قلت: وهذا فيه بيان جليّ، على أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعبدالله بن مسعود، يريان كفر تارك الصلاة كفراً أكبر، وهذا يعضد القول، بأن كفر تارك الصلاة الكفر الأكبر، محلّ إجماع من الصحابة.

ويشهد على كفر تارك الصلاة، أن الله تبارك وتعالى لم يأذن لأحد بتركها، وإن كان على فراش الموت، حتى لو يومئ لها إيماءً ويصلِّي إشارةً. ولم يرخّص لأحد في تركها، كما رخّص في الزكاة والصيام والحج.

فجعل الصلاة صنو التوحيد. فكما أن التوحيد لا يرخّص لأحد في تركه، فكذلك الصلاة، لا يرخّص لأحد في تركها.

وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدواوين عند الله عز وجل ثلاثة، ديوان لا يعبأ الله به شيئا، وديوان لا يترك الله منه شيئا، وديوان لا يغفره الله، فأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك بالله قال الله عز وجل إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئا فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه من صوم يوم تركه أو صلاة تركها فان الله عز وجل يغفر ذلك ويتجاوز ان شاء وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئا فظلم العباد بعضهم بعضا القصاص لا محالة".

فهذا حديث ضعيف الإسناد، ولكن ضعفه يسير، وقد رواه أحمد بن حنبل، ولم يأخذ به كثير من أئمة السنة وحكموا أن من ترك صلاة واحدة فقط خلع ربقة الإسلام من عنقه، وعليه التوبة وتجديد إسلامه.

وبعض أئمة السنّة غلا حتى قال من تركها حتى يخرج وقتها من غير عذر فهو كافر! وهذا باطل ترده النصوص الشرعية.

والدليل على ذلك:

عن أبي ذر رضي الله عنه، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها أو يميتون الصلاة عن وقتها؟ قال: قلت: فما تأمرني؟ قال: صل الصلاة لوقتها فإن أدركت القوم وقد صلوا كنت قد أحرزت صلاتك، وإلا كانت لك نافلة".

رواه مسلم.

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه ستكون عليكم أمراء يؤخرون الصلاة عن ميقاتها ويخنقونها إلى شرق الموتى فإذا رأيتموهم قد فعلوا ذلك، فصلوا الصلاة لميقاتها، واجعلوا صلاتكم معهم سبحة".

رواه مسلم.

فلو كانوا كفاراً بتأخيرهم الصلاة حتى يخرج وقتها، لما صحّت الصلاة خلفهم، ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالصلاة خلف كافر، بل لنهاه عن ذلك، وأخبرهم بأنهم ارتدوا عن الإسلام.

وهذا يدل على بطلان ما ذهب إليه الإمام عبدالله بن المبارك رحمه الله عندما قال: "من قال أصلي غداً فهو أكفر عندي من حمار".

بل إن إسحاق بن راهوية تمادى، عندما قال: قد صح عن رسول الله أن تارك الصلاة كافر" ثم قال: "وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي إلى يومنا هذا: أن تارك الصلاة عمدًا من غير عذر، حتى يذهب وقتها؛ كافر". 

فقوله: أنه صح عن النبي أن تارك الصلاة كافر، وأن هذا رأي أهل العلم من لدن النبي إلى يومه. صحيح. 

وأما قوله: "حتى يذهب وقتها كافر" فهذا الخطأ البيّن، والقول الذي لا أساس له من الصحة، وقد بيّنت الأحاديث الدالة على بطلان هذا القول، بل إن الإمام الشافعي، صرّح في كتابه الأم، بأنه ليس بكافر، فقال: "لو أن رجلاً ترك الصلاة حتى يخرج وقتها كان قد تعرض شراً إلا أن يعفو الله".

فقول الشافعي: "إلا أن يعفو الله" دليل على أن تارك الصلاة متعمداً حتى يخرج وقتها، ليس بكافر عنده، بل هو عاص، وتحت مشيئة الله تعالى، فتبيّن بذلك بطلان قول ابن راهوية، في ادعاءه الإجماع على ذلك.

وقد احتج بعض العلماء على عدم كفر تارك الصلاة، بما رواه عبادة بن الصامت قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ، فَمَنْ جَاءَ بِهِنَّ لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ ، كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ، إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّة"

صحيح.

قلت: وهذا الحديث بهذا النص سقط منه حرف، يدل على هذا ما جاء في رواية أخرى لهذا الحديث ذكرها أحمد وأبو داؤد جاء فيها ما نصه: "خَمْسُ صَلَوَاتٍ افْتَرَضَهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ أَحْسَنَ وُضُوءَهُنَّ وَصَلَّاهُنَّ لِوَقْتِهِنَّ وَأَتَمَّ رُكُوعَهُنَّ وَخُشُوعَهُنَّ كَانَ لَهُ عَلَى اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَيْسَ لَهُ عَلَى اللَّهِ عَهْدٌ، إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ".

فقوله: "لم يضيع منهن شيئاً". وقوله: "مَنْ أَحْسَنَ وُضُوءَهُنَّ وَصَلَّاهُنَّ لِوَقْتِهِنَّ وَأَتَمَّ رُكُوعَهُنَّ وَخُشُوعَهُنَّ". ليس المراد به تارك الصلاة، وإنما المراد به من انتقص من شروطها أو أركانها أو واجباتها، فذلك عاصٍ مستحقٌ للعقوبة، وفي دليل على أن من أخر الصلاة عن وقتها، فليس بكافر، إنما هو عاصٍ، خلافاً لمن قال بكفره من أئمة السنة.

والله اعلم وأحكم.

حدود العذر بشروط وموانع التكفير

هذا الموضوع، فيه رد على الذين توسعوا في الأعذار، توسعا زاد عن الحد الشرعي والعقلي أيضاً. 

فمتى تكون العبد معذورا بشروط وموانع التكفير، ومتى لا يكون معذوراً؟

يكون العبد معذوراً فيما لا يمكن إدراكه إلا بالخبر عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، وأما ما يمكن معرفته بالعقل والفطرة، فلا عذر فيه مطلقاً.

ومعرفة ذلك، والتمييز بينه، يمكن أن ندركه نحن بعقولنا وفطرنا السليمة.

فلا يعقل أن يؤمن الشخص بأن حجراً أو شجراً قادر على غوثه وإجابة دعائه.

كما لا يعقل أن يؤمن الشخص بأن هناك مخلوقاً سواء ملكاً أو جنياً أو إنسياً، عنده قوة خارقة للطبيعة، وقادر على سماع دعائه له وهو- أي: هذا المدعو من دون الله - ميت أو في أرض بعيدة، وأنه قادر غوثه وإجابة دعوته، دون أن يكون حياً وحاضراً وقادراً على إغاثتك فيما اعتاد الناس على إغاثة بعضهم البعض عليه من أمور دنياهم.

هذا مخالف للعقل، والغريب، أن أكثر من يدعي الاحتجاج بالعقل، هم من يؤمن بهذه الخرافات!

بينما الذي يجب أن تعتقده - وهو الثابت بالعقل والفطرة السليمة - في أي مخلوق، هو أنه مخلوق، حتى لو كان نبياً أو ولياً أو جنياً أو ملاكاً، وأن حدود قدراته هي حدود قدرات أي مخلوق أخر.

والدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة الزهراء رضي الله عنها: "سليني من مالي ما شئتِ، لا أغني عنكي من الله شيئا". رواه البخاري.

فبيّن لها النبي، أنه بشر، وأنه لا يقدر إلا على ما يقدر عليه المخلوقون عادة من أمور الدنيا.

وأما الشبه التي يقدمها المشركون، حتى من يدعي الإسلام منهم، من أنهم لا يعبدون معبوداتهم من دون الله إلا لتكون شفيعة لهم عند الله، فقد رد الله عليهم قولهم هذا، في سورة يونس، وأخبر أنهم مطالبون بالدليل منه هو سبحانه أو من قول نبي من أنبيائه، أنه أمرهم بذلك، فقال عز من قائل: ﴿وَیَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا یَضُرُّهُمۡ وَلَا یَنفَعُهُمۡ وَیَقُولُونَ هَـٰۤؤُلَاۤءِ شُفَعَـٰۤؤُنَا عِندَ ٱللَّهِۚ قُلۡ أَتُنَبِّـُٔونَ ٱللَّهَ بِمَا لَا یَعۡلَمُ فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَلَا فِی ٱلۡأَرۡضِۚ سُبۡحَـٰنَهُۥ وَتَعَـٰلَىٰ عَمَّا یُشۡرِكُونَ﴾ [يونس ١٨]

فدلت هذه الآية، على أن العبد الذي يعمل عملا ليس عليه دليل من كتاب الله ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه غير معذور فيه، إذ كيف يعمل عملا لم يأمره الله ولا رسوله به! ألم يسأل نفسه: من أين جاء كبرائه الذين يقلدهم دينه بهذه العبادات؟! إذا هذه المسألة مما تعرف بالعقل والفطرة السليمة، ولا عذر للمخالف فيها، بنص القرآن العظيم.

كذلك ما يقوم به مشايخ الصوفية من السحر والشعوذة والكهانة، باطلة بالعقل قبل النقل، فباعتراف جميع التائبين منهم، أنهم كي يصلوا إلى مرتبة تصبح الشياطين فيها خداما لهم، فإنهم يقومون بأعمال منافية تماما للإسلام.

فالشياطين تأتيهم في صور حسان، وتدعي أنها ملائكة مخلوقة لخدمتهم خاصة، ولكنهم يطلبون منهم مطالب تفضح حقيقتهم وبجلاء، وأنهم ليسوا سوى شياطين.

فمثلا: أحدهم يقول: لا نصل إلى مرتبة الولاية - أي: إلى مرتبة تصبح الشياطين فيها خدماً لهم - حتى ندفن القرآن ونتبول عليه! 

وأخر يقول: لا نصل إلى مرتبة الولاية حتى لا نصلي العصر، ونصلي بغير وضوء، ونستبيح نكاح المحارم.

ثم الأعمال التي يقومون بها أكثرها أعمال شنيعة قبيحة، منها التفريق بين الزوج والزوجة، أو عطف الزوج على الزوجة، وجعله ضعيفاً أمامها، ملبياً لرغباتها، أشبه بالعبد معها. أو عطف فتاة على شاب لا تريده، أو إلحاق الأذى بشخص، كقتله أو إصابته بمرض أو عاهة.

فلو كان هناك شيخ صوفي استرسل معهم، واستمر، ثم ادعى أنه جاهل، أو أعتذر له بأي عذر، فلا يقبل منه هذا القول، لدلالة العقل والفطرة على قبح هذه الأعمال التي يقوم بها، فإذا كان يقرأ القرآن، قويت الحجة عليه، وإن كانت قائمة أصلا بالعقل والفطرة. 

بل حتى من يأتي إلى هؤلاء السحرة، ويرى ما يقومون به من أعمال شرّيرة، غير معذور بأي حال من الأحوال، بل مؤاخذ بذلك، لأن العقل والفطرة دلت على قبح هذا العمل. 

إذا دلالة العقل، تبطل ما يقوم به هؤلاء المشركون من الشرك ومن الأفعال القبيحة.

وأما الفطرة، فما من إنسان إلا وقد فطره الله تعالى على ثلاث مسائل: أن له رباً وأن ربه في السماء، وأن ربه هو الملجأ والملاذ عند النوائب. فمن خالف هذه الفطرة، متعللا ببيئته، كانت أدلة العقل قائمة عليه، لبيان خطأ ما يقوم به من الشرك والإلحاد.

ومثل ذلك: القتل والزنا واللواط والاغتصاب والسرقة والسطو والكذب وأكل أموال الناس بالباطل، كالربا والتطفيف والتحايل والتغرير ونحو ذلك، والغيبة والبهتان والنميمة، وعدم التنزه عن القاذورات الحسية والمعنوية، هذه دلالة العقل والفطرة على قبحها كاف في إقامة الحجة على العبد، لأن الله فطر الناس على قبح هذه الأعمال. فسواء جاءك مخبر بقبحها أو لم يأتك، فالحجة قائمة عليك.

عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال أناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ قال: "أما من أحسن منكم في الإسلام، فلا يؤاخذ بها، ومن أساء، أخذ بعمله في الجاهلية والإسلام".

رواه البخاري ومسلم؛ واللفظ له.

فلو كانت الحجة تقوم في الشرك والزنا واللواطة والقتل والسرقة والسطو والغيبة والبهتان والنميمة، وغيرها من الأفعال القبيحة الذميمة، لما أخذ الله الناس بما فعلوا في الجاهلية، لأنه وبزعم من يقول بأن العبد معذور بتلك الأعذار، فعنده أنهم لا يؤاخذون بما فعلوا في جاهليتهم، بحكم أنهم معذورون، وهذا خلاف الدليل والعقل والفطرة!

فهذه المسائل لا عذر فيها بالخطأ مطلقا، فلا يعذر بجهل ولا بتأويل ولا بتقليد ولا بحسن نية، لدلالة العقل والفطرة على بطلانها وقبحها، والواقع فيها مستوجب للعقوبة يوم القيامة، وإن كان لا يخلد في النار إلا من وقع في الشرك الأكبر، أو كذب بشيء مما جاء الله به ورسوله، عالما متعمداً.

ولكنه يعذر في بعضها بالنسيان أو الإكراه.

كمن يحلف بالأوثان ناسياً، وإنما وقع منه ذلك عن سبق لسان، أو يدعو ويستغيث بغير الله ناسياً، أو يكره على النطق بالكفر، وقلبه مطمئن بالإيمان، أو قام بفعل قبيح مذموم بالعقل والفطرة مكرهاً، فهؤلاء معذورون بالنسيان والإكراه. 

لكن لا يقال عمّن فعل فعلا قبيحا أنه ناسي! لأن النسيان لا يدخل في ذلك، ولا يمكن إعذاره إلا بالإكراه فقط في حالة ما إذا أكره على فعل قبيحة من القبائح، فيجب وضع الأعذار في مواضعها الصحيحة.

وأما المسائل الخبرية، التي لا يمكن معرفتها إلا من جهة الخبر، ويعذر فيها العبد بالخطأ فيها.

فقد عدّ الإمام الشافعي منها: صفات الله تعالى؛ وهو لم يأتي بنص شرعي للدلالة على ذلك، إلا أني وجدت في كتاب الله تعالى وسنة النبي آيات تشير إلى إعذار المخطئ في هذا الباب، ولعله قال ذلك: لأن الشيء الذي لم يبسق لك رؤيته، لا تعرف صفته إلا بالخبر أو المشاهدة.

ولكن الإمام الشافعي لم يبيّن متى تقوم الحجة على المخالف في الصفات، هل يكفي عنده أن يقرأ القرآن، أو يلزم من ذلك أن يقرأ السنة معها، أو يلزم من ذلك كشف الشبهة عن المخالف في باب الصفات، إذا كان قد شبه عليه من قبل المتكلمين!

والصواب: أن قراءة القرآن والسنة كافية في إقامة الحجة، والعبد بفطرته يفهم معان ما يقرأ من الآيات والأحاديث الواردة في باب الصفات، ولكنه يدخل معها تأويل المحرفين من المتكلمين، فيكذب ما يعرفه هو من الكلام الظاهر البيّن، ويتبع قول هؤلاء الأفاكين.

وهنا مسألة: شخص كان معطلا ومشركاً، ثم تاب من الشرك وأقر بتوحيد الربوبية والألوهية، ولكنه أقام على التعطيل، وهو لا يعلم أن التعطيل مصدره من فلاسفة الإغريق، ويظن أنه تنزيه، لما تشربه قلبه من كلام المتكلمين، واستقباحهم لإثبات الصفات، بدعوى أنها تنقص لله تعالى، هل يعذر أو لا يعذر، مثل الشوكاني وشريعة سنكلجي والبرقعي وأشباه هؤلاء؟

والجواب: الله أعلم، أمرهم إلى الله تعالى، ولكن مثلهم لا ينظر إليه، ولا يلتفت إليه، ولا تقرأ كتبهم، ولا يرفع ذكرهم، ينسون تماماً.

أما المعطل الذي جمع الشرك مع التعطيل، أو بين له، وشرح له، ومع ذلك أبا إلا التعطيل، تكبراً عن قبول الحق، وتعصباً للسادات والكبراء، فهذا هو الذي لا يشك في أمره.

وأيضاً من المسائل الخبرية التي يعذر فيها بالخطأ، كيفية أداء العبادات، وأنها فرض من الله، فرض لازم،  فإن العبد، لا يمكنه معرفة طريقة أداء العبادات التي افترضها الله عليه إلا بالخبر من الله أو رسوله، وإلا كان جاهلاً بها، فكيف يؤديها! 

فمن أنكر أن الله افترض فرضاً أو أبى أن يؤدي عبادة بعد بلوغه الخبر، فقد قامت عليه الحجة.

وكذلك من أنكر أن الله حرم شيئاً، بعد بلوغ الخبر إليه، من الكتاب والسنة، فقد قامت عليه الحجة.

ويكفي في ذلك أن يعيش في بيئة مسلمة، يراهم يؤدون العبادات، فهذا كاف في بلوغه العلم بذلك، فمجرد إعراضه كاف في إقامة الحجة عليه.

وقد بعث النبي رجلاً من أصحابه ليقتل رجلا نكح زوجة أبيه، رواه مسلم. ولم يبعث له النبي هل أنت مخطئ أم لست بمخطئ، كونه يعيش وسط المسلمين، ولا شك أنهم نهوه فلم ينته، فكل من يعيش في بيئة مسلمة، فلا عذر له في شيء من أمور الدين.

إذا فشروط وموانع التكفير، إنما تنطبق على مسائل لا يمكن معرفتها إلا بالخبر عن الله وعن رسوله، ثم يلزم أن يكون في بيئة بعيدة لا يمكنه معها معرفة ذلك.

أما ما يمكن معرفته بالعقل والفطرة، فلا عذر فيه.

وهذا ما نصّت عليه الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة، يستوي في ذلك الكافر ومدعي الإسلام، لا فرق بينهما.

لأني وجدت بعض المخالفين يقول: نفرق بين الكافر الأصلي ومن ينتسب إلى الإسلام ووقع في الكفر! وهذا حقا تفريق عجيب، لا وجود له في كتاب الله ولا سنة نبيه، بل الموجود في الكتاب والسنة خلافه، لأن مشركي قريش كانوا يدعون أنهم على ملة إبراهيم، ولذلك يحجون لله تعالى وحده، ويصلون صلاة الصوفية والشيعة، وهي تلك الصلاة التي فيها رقص وغناء وتصفير وتصفيق، ويتصدقون لله ولغيره، وينذرون لله ولغيره، بل ويستغفرون الله تعالى من ذنوبهم أحياناً كثيرة، فلم يقل عنهم الله تعالى بأنهم أحناف أو مسلمون متلبسون بشرك، بل قال عنهم: مشركون. فكذلك من يدعي الإقرار بنبوة النبي محمد ويدعي الإسلام، لا يغنيه ذلك شيئا حتى يأتي به على الوجه الذي أمر الله ورسوله به.

مناقشة شروط وموانع التكفير.

قالوا: أن الجهل والإكراه والخطأ والتأويل وحسن النية والتقليد، أعذار تحول بين أهل البدع وبين تطبيق الأحكام الشرعية عليهم.

وهذه الشروط بعضها صحيح؛ ولكنهم يضعونها في غير مواضعها؛ لأن هذه الأعذار إنما تنطبق على من خالف في مسألة خفية، أو أخطأ في فهم آية أو حديث فتأولها على غير تأويلها، فلما بيّن له الحق رجع إليه وانقاد له.

أما المسائل الظاهرة، التي تدرك معرفتها بالعقل والفطرة، والتي جاء القرآن والسنة والآثار بتبيينها، وشرحها أئمة أهل السنة والجماعة المتقدمين في كتبهم، وفيما روي عنهم بالأسانيد الصحيحة والمقبولة، فكيف يمكن أن نطبق على المخالف فيها هذه الشروط، وكيف تنطبق هذه الشروط على من قرأ القرآن والسنة، وقرأ كتب أئمة أهل السنة والجماعة المتقدمين، ثم أصرّ على الخلاف وثبت على ضلاله!

وبعض هذه الشروط باطل بنص القرآن والسنة وما أجمع عليه أئمة أهل السنة المتقدمين.

هذا عدا أن جميع هذه الشروط والموانع ترجع إلى ثلاثة شروط هي: الخطأ والنسيان والإكراه.

أما الجهل والتأويل وحسن النية والقصد والتقليد فهي داخلة في باب الخطأ، فإذا ارتفع الخطأ، بتبيينه ارتفعت هذه الأعذار.

وأما الخطأ، فهو من جنس ما وقع لصاحب الدابة، عندما قال من شدّة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك. فهذا إنما أخطأ فهو لم يعني أبداً ما يقول، ولا اعتقده، وإنما أراد أن يقول: اللهم أنت ربي وأنا عبدك. ولكنه أخطأ من شدة الفرح، ولو كان صاحب الدابة يعتقد ذلك بقلبه حتى لو كان جهلا منه أو تفوه بهذا الكلام من باب المزاح والعبث أو قالها لأن أحداً أغضبه فذكره بعبوديته لله تعالى فتفوه بهذا الكلام على سبيل العناد لخصمه لكفر كفراً أكبر دون أن تقام عليه حجة أو يبين له دليل والعياذ بالله تعالى.

وأما النسيان فهو من جنس ما وقع لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، عندما أقسم باللات والعزى، فهو لم يكفر بعد إسلامه، ولا أعتقد أنها آلهة، ولكن الإقسام بها شيء قد تعوّد عليه في جاهليته، فلما أسلم أقسم بها ناسياً، وقد أرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى كفارة ذلك عندما أمره أن يقول: (لا اله الا الله) ولو كان سعد متعمدٌ لذلك لكفر الكفر الأكبر ولخرج من الإسلام كما دخل فيه.

وأما الإكراه فهو من جنس ما وقع لعمّار بن ياسر رضي الله عنه، عندما عذّبه المشركون عذاباً شديداً، وواعدوه إن هو سب الله ورسوله أن يدعوه، فلما لم يجد منهم خلاصاً إلا أن يقول ما أمروه به قال ذلك دفعاً عن نفسه، وهو كاره لذلك، مرغماً عليه، ولو شرح عمار بن ياسر بذلك صدراً ونطق به راض به لكفر الكفر الأكبر، ولخرج من الإسلام كما دخل فيه.

فهذه الحالات الثلاث، لا يؤاخذ بها العبد، رحمة من الله تعالى بعباده، وكرماً منه.

وأما باقي الشروط والموانع فترتفع بارتفاع الخطأ بتبيينه، ولا يبقى سوى العلم والتعمد والقصد وسوء النية والرغبة في الباطل.

أما أهل الأهواء والبدع والضلال، فعذروا كل من وقع في ناقض من نواقض الإسلام، حتى من قدحوا في ربوبية الله عز وجل أو ألوهيته أو أشركوا معه فيهما أحد غيره، معذورون عندهم بتلك الشروط والموانع، ويسمونهم: مسلمون متلبسون بشرك! وعذروا زنادقة الأشاعرة والماتريدية منكري صفات الباري سبحانه وتعالى، الذين تبيّن إعراضهم عن الحق، بعدما تبيّن لهم، مع كونهم قد قامت عليهم الحجج، وبينت لهم السبل، فهذه الأعذار مطاطة تتسع حتى لإبليس إن شاءوا أن يعذروه.

وإلا فهل يعقل أن يقال عن الشيعي أو الصوفي الذي يقرأ القرآن والسنة بأنه جاهل أو مخطئ أو متأول أو وقع ما وقع منه عن حسن نية وقصد أو مقلد مسكين أو مكره في ما وقع فيه من الشرك الأكبر! 

وهل يعقل أن يقال عن الجهمي أو المعتزلي أو الأشعري أو الماتريدي الذي قرأ القرآن والسنة واطّلع على كلام أئمة أهل السنة المتقدمين في الصفات، وتبيّن إعراضه، وأنه ليس لديه شبهة من كتاب الله أو سنة رسول الله، تجعله يتمسك بالتعطيل، بأنه جاهل أو مخطئ أو متأول أو وقع ما وقع منه عن حسن نية وقصد أو مقلد مسكين أو مكره! 

أو هل يعقل أن يقال عن من ترك الصلاة، أو ترك فرضاً من فروض الله عز وجل، أو أحل الحرام أو حرم الحلال، أنه جاهل أو مخطئ أو متأول أو وقع ما وقع منه عن حسن نية وقصد أو مقلد مسكين أو مكره!، بعد أن أقيمت عليه الحجة، وبلغته رسالة النبي صلى الله عليه وسلم!

قال الله تبارك وتعالى في سورة الكهف: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً )

فهل رأيتم الله عز وجل في هذه الآية عذر من وقع في الكفر عن حسن نية منه، أم ألحقه بإخوانه الكافرين!

وقال تعالى في سورة غافر: (وإذ يَتَحَاجّون في النار فيقول الضعفاء الذين اشتكبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فهل أنتم مَعْلُونَ عَنَا نصيباً من النار قال الذين اشتكبَرُوا إنّا كل فيها إنّ الله قد حَكمَ بَيْنَ العباد)

وقال تعالى في سورة سبأ: (وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَىٰ بَعْدَ إِذْ جَاءَكُم ۖ بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا ۚ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)

فهل رأيتم الله عز وجل عذر المقلدين في هذه الآيات، أم على الله يفترون!

أما احتجاجهم بفشو البدع وغلبة الباطل، فلو كان حجة، لكان حجة لمشركي العرب الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، إذ لم يبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلا بعد أن فشت البدعة في الملة الحنيفية - ملة إبراهيم - وغلب الباطل، فلم يعذرهم الله تبارك وتعالى بذلك، بل أمرهم باتباع الحق والانقياد له.

فأي مسألة لا تحتاج إلى إقامة حجة فيها، مثل توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، فهذا يكفر من خالف فيها، سواء كان متبوعاً أو تابعاً، مُقَلَّدَاً أو مُقَلِّدَاً، عالما أو جاهلاً وإن كان أعرابياً يجوب القفار، أمياً لا يعرف القراءة والكتابة.

وأي مسألة تحتاج إلى إقامة الحجة فيها، فهذا يكفر المخالف فيها بعد بيان الحجة له من الكتاب والسنة، ولا تحتاج إلى أن تنقل له أقوال العلماء فيها إلا لتزيد الحجة عليه فقط، سواء كان متبوعاً أو تابعاً، مُقَلَّدَاً أو مُقَلِّدَاً، عالما أو جاهلاً، وإن كان أعرابياً يجوب القفار، أمياً لا يعرف القراءة والكتابة.

بل الأمر عند أهل الأهواء أبعد من ذلك، فحتى لو أقيمت الحجج على أهل البدع، يبقى عذرهم بهذه الشروط والموانع قائماً لا يزول، واحتجوا على ذلك بما فعله الشيخ أحمد بن تيمية فبعد أن أقام الحجج على ملاحدة الصوفية يقول: أنا لا أكفركم؛ لأنكم عندي جهّال، ولو قلت بقولكم لكفرت. 

فإذا كانوا وبعد إقامة الحجة عليهم ببيان الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة لا يزالون جهّالاً ولا يمكن تطبيق الأحكام الشرعية عليهم، فمتى تنتفي عنهم صفة الجهل وتنطبق عليهم الشروط وتنتفي عنهم الموانع؟

إننا لا نحتاج في إقامة الحجة؛ لأن نشق القمر شقين، أو نفلق البحر فلقين، أو أن نحوّل رمال الصحراء ذهباً، أو نسقط السماء على الناس كسفا، بل يكفي أن يسمع الزائغون عن الحق بالحق والبيّنة، فإن أعرضوا بعد ذلك فقد أقيمت عليه الحجة.

عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار"

رواه أحمد ومسلم وغيرهما.

فقيّد النبي صلى الله عليه وسلم قيام الحجة بمجرّد السماع، فأين هؤلاء الذين يزعمون أنه حتى لو أقيمت الحجج على الزائغين، لا يكفّرون!

وقد حاول البعض أن يعتذر للشيخ أحمد بن تيمية بأنه ما قال ذلك؛ إلا من باب السياسة الشرعية، كما فعل بعض أئمة الدعوة النجدية، ولذلك تجد بعضهم طبّق هذه السياسة في رسائله لملاحدة الصوفية كما فعل الشيخ محمد بن عبدالوهاب وابنه الشيخ عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب، ولو افترضنا أن ابن تيمية كان يفعل ذلك حقاً من باب السياسة الشرعية، فهي سياسة خاطئة مردودة بنصّ القرآن والسنة، بل من آثارها نعرف خطأها، فكل من جاء بعد الشيخ أخذ هذه السياسة على أنها معتقد الشيخ حقاً وصدقاً

وكيف والله تبارك وتعالى يقول: (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين)

وعن أبي واقد الليثي أن الحارث بن مالك قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، وللمشركين سدرة يعكفون عندها ينوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر، إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون) لتركبن سنن من كان قبلكم"

رواه أحمد والترمذي والنسائي، وابن إسحاق في السيرة.

فمن جعل هذه الشروط والموانع حائلاً يحول بين تكفير من قامت البيّنة بكفره من أهل البدع سواء كان شيعياً أو صوفياً أو أشعرياً أو ماتريدياً أو إباضياً، أو تاركاً للصلاة، أو مستحلاً لترك فريضة من فرائض الله، أو مستحلاً لما حرم الله، فهو إما جاهل مقلد يعلَّم ويبين له، وإما أنه صاحب هوى يريد أن يخلط الكفر بالإسلام والباطل بالحق، والله لا يهدي القوم الظالمين.

حديث أهل الأعذار

ورد في بعض الأحاديث، أن ثمَّة أهل أعذار يوم القيامة، كلّهم يُدلي بعذره أمام الله تعالى، فيمتحنهم الله تعالى في عرصات يوم القيامة، فمن أطاع فقد نجا، ومن عصى فقد هلك. 

وسوف نعرض هذه الأحاديث، ونقوم بغربلتها، لمعرفة مدى صحتها، وقيمة الاحتجاج بها.

فالحديث الأول:

حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا معاذ بن هشام، قال: حدثني أبي، عن قتادة، عن الأحنف بن قيس، عن الأسود بن سريع، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "أربعة يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع شيئا، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة، فأما الأصم فيقول: رب، لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئا، وأما الأحمق فيقول: رب، لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر، وأما الهرم فيقول: رب، لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئا، وأما الذي مات في الفترة فيقول: رب، ما أتاني لك رسول، فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه، فيرسل إليهم أن ادخلوا النار، قال: فوالذي نفس محمد بيده، لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما ".

رواه أحمد والطبراني في الكبير.

وسنده ضعيف، لانقطاعه، قتادة: وهو ابن دعامة السدوسي مدلس وقد عنعنه، ثم إن سماعه من الأحنف بن قيس مستبعد، لأنه ولد في البصرة سنة (٦٠هـ) على أحد الأقوال، وتوفي الأحنف سنة (٦٧هـ) على أصح الأقوال. 

وفيه: معاذ بن هشام: وهو الدستوائي، مختلف فيه، فقد روى له الشيخان البخاري ومسلم، وذكره البخاري في تواريخه، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، ووثقه ابن معين مرة، وقال مرة: صدوق، ليس بحجة، وقال مرة: لم يكن بالثقة، وتوقف فيه أبو داود، وقال: كان يحيى لا يرضاه. والظاهر من حاله أنه صدوق في الحديث، إلّا أنه كان قدريّاً، لذلك أسقط بعض أهل العلم روايته، ولم يرتضوه.

وقد اختلف عن معاذ بن هشام فيه. 

فروي عنه هنا عن قتادة، عن الأحنف، عن الأسود، به مرفوعا. 

وروي عنه مرّة عن قتادة، عن الأسود بن سريع، به، مرفوعا، فأسقط من الإسناد الأحنف بن قيس. 

وروي عنه مرة عن قتادة، عن الحسن، عن الأسود بن سريع، به. فأدخل الحسن في الإسناد بدل الأحنف، والحسن لم يسمع من الأسود.

وروي مرة عنه، عن قتادة عن الحسن- وهو البصري- عن أبي رافع، عن أبي هريرة، به مرفوعا. وهذا الإسناد أصحّ، وهو ضعيف لعنعنة قتادة.

الحديث الثاني:

حدثنا علي، حدثنا معاذ بن هشام، قال: حدثني أبي، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، مثل هذا غير أنه قال في آخره: "فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما، ومن لم يدخلها يسحب إليها".

رواه أحمد.

وهو ضعيف لعنعنة قتادة، وهو مدلّس.

الحديث الثالث:

حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، عن أبي هريرة قال إذا كان يوم القيامة جمع الله أهل الفترة والمعتوه والأصم والأبكم والشيوخ الذين لم يدركوا الإسلام ثم أرسل إليهم رسولا أن ادخلوا النار فيقولون كيف ولم تأتنا رسل قال وأيم الله لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما ثم يرسل إليهم فيطيعه من كان يريد أن يطيعه‏.‏ قال أبو هريرة اقرؤوا إن شئتم ‏(‏وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا‏).

حديث ضعيف.

رواه الطبري، عن قتادة مرسلاً، فإن قتادة لم يلقى أبا هريرة، وجميع رجال السند ثقات.

وقال الطبري أيضاً: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة نحوه.

والقاسم بن حسن، مجهول. ويقال هو القاسم بن حسن الهمداني أبو محمد، لم يوثّقه سوى الخطيب البغدادي ومن تابعه، وليس توثيق الخطيب ولا أحكامه بشيء.

 والحسين بن داود، ضعيف، لم يكن بذاك، ليس بثقة.

 وأبو سفيان، محمد بن حميد البصري، حسن الحديث.

الحديث الرابع:

حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا جرير بن عبد الحميد عن ليث بن أبي سليم عن عبد الوارث، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يؤتى بأربعة يوم القيامة بالمولود والمعتوه، ومن مات في الفترة وبالشيخ الفاني كلهم يتكلم بحجته فيقول الله تبارك وتعالى لعنق من جهنم أحسبه قال: ابرزي فيقول لهم: إني كنت أبعث إلى عبادي رسلا من أنفسهم وإني رسول نفسي إليكم ادخلوا هذه فيقول من كتب عليه الشقاء: يا رب أتدخلناها ومنها كنا نفرق؟ ومن كتبت له السعادة فيمضي فيقتحم فيها مسرعا قال: فيقول الله: قد عصيتموني وأنتم لرسلي أشد تكذيبا ومعصية قال: فيدخل هؤلاء الجنة ويدخل هؤلاء النار.

رواه البزار.

وسنده ضعيف. 

فيه ليث بن أبي سليم، ضعيف، لا يحتج به، مضطرب الحديث، ليّن الحديث، لا يشتغل به، ليس بحافظ، سيء الحفظ، كثير الغلط، منكر الحديث.

وفيه عبدالوارث الأنصاري، ضعيف، منكر الحديث، مجهول.

وفيه يوسف بن موسى، صدوق حسن الحديث.

الحديث الخامس:

أخبرنا محمد بن عبد الملك وعبيد بن محمد، قالا: حدثنا عبد الله بن مسرور، قال: حدثنا عيسى بن مسكين، قال: حدثنا محمد بن سنجر، قال: حدثنا سعيد بن سليمان، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى بالهالك في الفترة والمعتوه والمولود فيقول الهالك في الفترة لم يأتني كتاب ولا رسول ويقول المعتوه أي رب لم أجعل لي عقلا أعقل به خيرا ولا شرا‏.‏ ويقول المولود لم أدرك العمل، قال: فيرفع لهم‏؟‏ فيقال لهم: أردوها، أو قال: ادخلوها، فيدخلها من كان في علم الله سعيدا لو أدرك‏ العمل،‏ ويمسك عنها من كان في علم الله شقيا لو أدرك العمل، فيقول تبارك وتعالى وإياي عصيتم فكيف برسلي بالغيب.

رواه ابن عبدالبر في التمهيد والاستذكار والهيثمي في مجمع الزوائد.

في إسناده عطية العوفي، ضعيف، ليس بالذي يعتمد عليه، ليّن، ليس بحجة، مضطرب الحديث.

وفي إسناده فضيل بن مرزوق، مختلف فيه، البعض يضعفه وآخرون يوثقونه.

وهذا الحديث يزعم البعض أنه في مسند البزار ولم أجده.

الحديث السادس:

حدثنا أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي، ثنا محمد بن المبارك الصوري، ح وحدثنا أحمد بن المعلى الدمشقي، ثنا هشام بن عمار قالا: ثنا عمرو بن واقد، عن يونس بن ميسرة بن حلبس، عن أبي إدريس، عن معاذ بن جبل، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يؤتى يوم القيامة بالممسوح عقلا وبالهالك في الفترة، وبالهالك صغيرا، فيقول الممسوح عقلا: يا رب، لو آتيتني عقلا ما كان من آتيته عقلا بأسعد بعقله مني، ويقول الهالك صغيرا: يا رب لو آتيتني عمرا ما كان من آتيته عمرا بأسعد من عمره مني، ويقول الهالك في الفترة: يا رب لو جاءني منك رسول ما كان بشر أتاه منك عهد بأسعد بعهدك مني، فيقول الرب تعالى: فإني آمركم بأمر أفتطيعوني؟ فيقولون: نعم وعزتك يا رب، فيقول: اذهبوا فادخلوا جهنم - ولو دخلوها لما تضرهم شيئا - فيخرج عليهم فرائض من النار يظنون أنها قد أهلكت ما خلق الله من شيء، ثم يأمرهم الثانية فيرجعون كذلك، فيقول الرب عز وجل: خلقتكم بعلمي، وإلى علمي تصيرون، فتأخذهم النار".

رواه الطبراني في الكبير.

فيه: عمرو بن واقد، متروك الحديث، ضعيف الحديث، منكر الحديث، ليس بشيء.

وفيه: أحمد بن المعلى، صدوق حسن الحديث.

الحديث السابع:

فحدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن سنان القزاز، ثنا إسحاق بن إدريس، ثنا أبان بن يزيد، ثنا يحيى بن أبي كثير، ثنا أبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي، حدثني أبو أسماء الرحبي، أن ثوبان حدثه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: إذا كان يوم القيامة جاء أهل الجاهلية يحملون أوثانهم على ظهورهم فيسألهم ربهم فيقولون ربنا لم ترسل إلينا رسولا ولم يأتنا لك أمر ولو أرسلت إلينا رسولا لكنا أطوع عبادك فيقول لهم ربهم أريتكم أن أمرتكم بأمر تطيعوني فيقولون نعم فيأمرهم أن يعمدوا إلى جهنم فيدخولها فينطلقون حتى إذا دنوا منها وجدوا لها تغيظا وزفيرا فرجعوا إلى ربهم فيقولون ربنا أجرنا منها فيقول لهم الم تزعموا أني أن أمرتكم بأمر تطيعوني فيأخذ على ذلك مواثيقهم فيقول اعمدوا إليها فادخلوها فينطلقون حتى إذا رأوها فرقوا ورجعوا فقالوا ربنا فرقنا منها ولا نستطيع أن ندخلها فيقول ادخلوها داخرين فقال النبي صلى الله عليه وسلم لو دخلوها أول مرة كانت عليم بردا وسلاما. 

قال الحاكم صحيح على شرط البخاري ومسلم‏.‏

فيه: أبو أسماء الرحبي، لم يوثقه سوى العجلي، وروى له البخاري في الأدب المفرد فقط، فدلّ هذا على أنه حسن الحديث عند البخاري.

وفيه: إسحاق بن إدريس، ضعيف، كان يسرق الحديث، ليس بشيء، واهي الحديث، ضعيف الحديث، متروك الحديث، منكر الحديث، متهم بالوضع، كذاب يضع الحديث، لا يكتب حديثه.

وفيه: محمد بن سنان: في أمره نظر، كذّاب، ليس ثقة.

قلت: فتبيّن لي مما سبق، أن جميع الأحاديث التي رويت عن أهل الفترة لا تصحّ أسانيدها، والذي يظهر لي – والعلم عند الله وحده – أن هذا الحديث، ليس من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو من قول أبي هريرة رضي الله عنه، ليفسّر به قوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا)

والدليل على ذلك:

أن أبا هريرة، في بعض روايات هذا الحديث، أعقب ذلك بقوله: اقرؤوا إن شئتم ‏(‏وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا‏) اهـ فكأنه أراد أن يثبت رأيه بهذه الآية، ولو كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما احتاج إلى ذلك.

فوهم الرواة في رفعه، وتلقفه الضعفاء والمتروكون، فنسجوا على منواله أخبارا نحلوها من شاءوا من الصحابة.

والله وحده أعلم وأحكم.

وهذا الحديث لم يسلم من المعارض، فهناك أحاديث أصحّ منه سنداً، ومتواترة معناً، تفيد على خلاف ما دلّ عليه حديث أهل الأعذار.

فالدليل الأول:

هو قوله تعالى: {وَإِذ أَخَذَ رَبُّكَ مِنۢ بَنِیۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِم ذُرِّیَّتَهُم وَأَشهَدَهُم عَلَىٰۤ أَنفُسِهِم أَلَستُ بِرَبِّكُمۖ قَالُوا۟ بَلَىٰ شَهِدنَاۤۚ أَن تَقُولُوا۟ یَومَ ٱلقِیَـٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَن هَـٰذَا غَـٰفِلِینَ أَو تَقُولُوۤا۟ إِنَّمَاۤ أَشرَكَ ءَابَاۤؤُنَا مِن قَبلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّنۢ بَعدِهِمۖ أَفَتُهلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلمُبطِلُونَ} [الأعراف]

فقوله تعالى: {أَن تَقُولُوا۟ یَومَ ٱلقِیَـٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَن هَـٰذَا غَـٰفِلِینَ أَو تَقُولُوۤا۟ إِنَّمَاۤ أَشرَكَ ءَابَاۤؤُنَا مِن قَبلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّنۢ بَعدِهِمۖ أَفَتُهلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلمُبطِلُونَ} 

دليل صارخ، على الميثاق الأول، حجّة على الخلق سواء بعث الرُسُل أم لم يبعثوا، لأنه لم يعذرهم في هذه الآية، ولا في غيرها من الآيات، بالغفلة، أي: بالجهل، وعدم معرفة ما يريده الله منهم، وانشغالهم بأمور دنياهم، ولا عذرهم بتقليد آبائهم وساداتهم وكبرائهم، وإنما يحتج من يحتج بوجود أهل الفترة، بهذه العلل، وقد أسقطها الله تعالى، فتبيّن أنه لا وجود لما يسمّى بأهل الفترة.

ومن قال نسيت الميثاق، فالنسيان هنا لا قيمة له شرعاً، لأن الله الذي أخذ الميثاق على عباده، كان يعلم أن الناس سوف ينسون هذا الميثاق، ومع ذلك، لم يعذرهم بهذا النسيان، ولكنه ورحمة منه، تفضّل على عباده بأن يذكرهم هذا الميثاق، بواسطة رسله، ولو كان النسيان حجة في ذلك، ما كان في أخذ الله تعالى الميثاق على خلقه من حاجة، ولا في الاحتجاج به عليهم وإن لم يبعث عليهم نبي قيمة.

الدليل الثاني:

أن الله تعالى ذكر أنه أرسل النبي صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، قال تعالى: {وَمَاۤ أَرسَلنَـٰكَ إِلَّا رّحْمّةً لِّلعَـٰلَمِینَ} [الأنبياء] فإذا كان النبي بُعِث رحمة للعالمين، فإن عدم بعث النبي صلى الله عليه وسلم عذاب من الله للعالمين، وبالتالي يتبين، أنه لو لم يبعث النبي، فإن المشركين والفاسدين، محاسبون على اعتقاداتهم وأفعالهم، ولكن بناء على من يدّعي وجود أهل الفترة، فإن النبي لم يبعث رحمة للعالمين، لأنه ليس ثمة عذاب أصلاً سوف يقع على من لم يبعث عليهم نبي لا في الدنيا ولا في الأخرة، حتى يبعث عليهم نبيّ، أو يمتحنهم الله في العرصات، كما ظنوا.

الدليل الثالث:

أن الله تعالى قال: {وَلَو عَلِمَ ٱللَّهُ فِیهِم خَيْرَاً لَّأَسمَعَهُمۖ وَلَو أَسمَعَهُم لَتَوَلَّوا۟ وَّهُم مُّعرِضُونَ} [الأنفال] فدلّ هذا على أن الله قد يترك الأمم على شركها، لأنه سبق في علمه أنهم لا يؤمنون، لذلك تجد أمم وأجيال عاشوا وهلكوا على الشرك، لم يبعث الله تبارك وتعالى إليهم رسولاً ولا داعية، لما سبق في علمه سبحانه أنهم لا يؤمنون، وأنهم حطب جهنم لها داخرون، وفي هذا دليل على أن الحجة ليست معلّقة بإرسال الرسل.

الدليل الثالث:

عن عبدالله بن مسعود قال: قال أناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ قال: "أما من أحسن منكم في الإسلام، فلا يؤاخذ بها، ومن أساء، أخذ بعمله في الجاهلية والإسلام".

رواه البخاري ومسلم.

والشاهد من الحديث، أن النبي قال: "ومن أساء، أخذ بعمله في الجاهلية والإسلام" فلو كان المخطئ لا يؤاخذ بما فعل قبل أن يبلّغه مبلغ، لما أخذ الله تعالى المشركين بما فعلوا في الجاهلية، وإذا كان الإنسان في الجاهليّة يؤخذ بالقتل والسرقة والزنا وسيء الأخلاق، ونحو ذلك، فكيف لا يؤاخذ بالشرك، الذي هو أعظم الجرائم، وأشنع المعاصي.

الدليل الرابع:

عن زيد بن ثابت قال: ينما النبي صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النجار على بغلة له ونحن معه، إذ حادت به فكادت تلقيه، وإذا أقبر ستة، أو خمسة، أو أربعة، فقال: من يعرف أصحاب هذه الأقبر؟ فقال رجل: أنا، قال: فمتى مات هؤلاء؟ قال: ماتوا في الإشراك، فقال: إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا، لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه.

والشاهد من الحديث، أن النبي أخبر أن هؤلاء المشركين يعذبون في قبورهم، مع أنهم ماتوا قبل أن تبلغهم دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فلو كان الجاهل لا يؤاخذ بما فعل في جاهليّته لما عذّب هؤلاء المشركين، ولأُرجِئُوا إلى يوم القيامة.

الدليل الخامس:

أن أقوى سلاح بيد إبليس ليغويهم ويوقعهم في الكفر والشرك هو الجهل، فلو كان الجهل عذراً للعباد، ما كان لإبليس حاجة إلى تجهيل الناس، فتبيّن أن الجهل ليس عذراً.

وإنما يعذر العبد بالخطأ والنسيان وما استكره عليه، والخطأ والنسيان، إنما يراد به ما يقع من العبد على وجه السهو، كما فعل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، عندما أخطأ فحلف باللات والعزّى ناسياً، فمثل هذا لا يؤاخذ، أما من حلف متعمّداً فهذا يؤاخذ، وإن زعم أنه جاهل. وكذلك مثل صاحب الدابة، الذي قال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدّة الفرح، فهذا لم يرد أن يقول ذلك، ولكنه أخطأ من شدّة الفرح، فلا يؤاخذ بذلك، ولكن من قالها متعمداً، فهذا لا شك أنه يؤاخذ، وإن زعم أنه جاهل.

الدليل السادس:

عن أنس بن مالك قال: "أن رجلا قال: يا رسول الله، أين أبي؟ قال: في النار، فلما قفى دعاه، فقال: إن أبي وأباك في النار".

رواه مسلم.

فهذا حديث صحيح، يثبت أن من مات قبل بعثة النبي، فهو في النار، مع أن والد النبي - حسب اعتقاد من يدّعي وجود أهل الفترة - مات في فترة من الرُسُل!

الدليل السابع:

عن أبي هريرة رضي الله عنه - وهو الشخص الذي اُعْتُمِد عليه من يزعم وجود أهل الفترة - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي".

رواه مسلم.

وهو حديث صحيح، يدل على أن من مات قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو في النار، لأن الله تعالى نهاه عن الاستغفار لها.

الدليل الثامن:

ما رجّحته في خبر أطفال المشركين، الذين ماتوا قبل أن تعرب ألسنتهم، وأنهم من خيار الناس، لأنهم ماتوا على الفطرة، التي فطر الله الناس عليها، وهو حديث صحيح، وهذه نصوص صريحة تثبت أن الأطفال من أهل الجنّة، وأنهم لا يؤاخذون إلّا بما ماتوا عليه، لا بما يعلمه الله تعالى بما سوف يقع منهم إذا استمرت بهم الحياة، وهذا يتعارض مع ما ورد في حديث أهل الأعذار، من أن الأطفال يمتحنون في العرصات.

الدليل التاسع:

لو صحّ أن هناك أهل أعذار، فأكثر الناس يعتبرون من أهل الأعذار، وبهذا يكون تُسْعون بالمائة من الناس من أهل الأعذار، والعشر أو نصف العشر، أو أقلّ من ذلك، ليسوا من أهل الأعذار، فقد علم أنه مرّت أمم وأجيال، وهم أكثر الناس، ولم يبعث فيهم نذير، وهذا يتعارض مع كون الله تبارك وتعالى جعل هذه الدار، دار ابتلاء وامتحان، فلم تعد حسب قول من يدّعي وجود أهل الأعذار، دار ابتلاء وامتحان سوى لنزر يسير جداً من الناس! وهذا لا يقول به من أعطي مسحة من علم.

لذلك رأى بعض أهل العلم، أن أحاديث أهل الأعذار، إن صحّت، فإنما يراد بها من لم يدُن لله تعالى بِدين، وأما من اتخذ من الشرك ديناً فلا عذر له، ومن اساء فلا عذر له، لذلك لم يُشَر في الأحاديث إلى أن أهل الأعذار كانوا مشركين، وإنما أُشير إلى أنهم مشركون في حديث المروي عن ثوبان، وهو ضعيف جدّاً، وفوق ذلك ليس فيه إعذار للمشركين، بل فيه أن امتحانهم إنما هو تحصيل حاصل، وهو لتنقطع حجتهم، ويدخلون النار.

والأرجح أنه ليس هناك ما يسمّى بأهل أعذار، وأن هذا الحديث إن صحّ وهو لم يصح، إنما هو رأي أبي هريرة واجتهاده، ليتأول بذلك قوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا).

والله أعلم وأحكم.

الحد بين الإسلام والكفر

من قدح في ربوبية الله تعالى أو ألوهيته أو أشرك فيهما معه أحد غيره فهو كافر مشرك سواء كان جاهلا أو عالما معذوراً بعدم بلوغ الحجة أم غير معذور وإن زعم أنه مسلم ونطق الشهادتين وصلى وتصدق وصام وحج البيت الحرام.

لأن فاعل ذلك لم يأتي بأصل الأصول ونقض الشهادتين باعتقاده وفعله، والشهادتان لهما مضمون، فمن لم يأتي بمضمونهما لا تنفعه.

وعلى هذا فإن الصوفية والشيعة - الذين يعبدون الملائكة والجن وآل البيت ومشايخهم الذين يسمونهم الأولياء الصالحين يدعونهم من دون الله تعالى ويستغيثون ويستعينون ويستعيذون بهم فيما لا يقدر عليه سوى الله تعالى - ليسوا من الإسلام في شيء وإن أدعاءهم الإسلام يكذبه ما يعتقده هؤلاء الضالون في قلوبهم وتعمله جوارحهم من الإشراك بالله الشرك الأكبر الذي ما بعث ربنا عز وجل أنبياءه إلا لحربه وحرب أهله ومن جعلهم مسلمين عالما بحالهم خشي عليه أن يخرج هو من الإسلام لإجماع السلف على أن من لم يكفر الكافر ممن يفهم فهو كافر.

ويدل على ذلك أيضا أن الله تبارك وتعالى لم يسمي مشركي العرب قبل الإسلام، مسلمين متلبسين بشرك - كما يقول بعض الجهلة عن الصوفية والشيعة - مع أنهم كانوا يؤمنون بنبوة إبراهيم عليه السلام ويعتقدون أن ماهم عليه هو ملته ودينه الذي يدين لله به! ولم يعذرهم بالجهل مع أنهم لم يكن لديهم كتاب ولا علم، وهؤلاء الصوفية كتاب الله بين ايديهم وسنة رسول الله بين ظهرانيهم، ثم يأتي من يقول بأنهم معذورون بالجهل، سبحانك هذا بهتان عظيم، مما يثبت قطعاً أن حال الصوفية والشيعة ومشركي العرب قبل الإسلام في الحال سواء.

(انظر بحث بعنوان: أوجه الشبه بين مشركي العرب قبل الإسلام ومشركي الصوفية والشيعة)

ومثله من يلحد في صفات الله عز وجل بتعطيل أو تمثيل والصفات ليست على حكم واحد.

فصفات لا يعذر الجهل بها مطلقا كصفة الحياة والملك والخلق والأمر والتدبير والقوة والقدرة والعلم والإرادة، لتعلقها بتوحيد الربوبية ففي قدحه فيها أو نفيه لها أو ادعاء أن ثمة من يشارك الله في كمال هذه الصفات فقد قدح في ربوبية الله تعالى وأشرك معه فيها غيره.

وصفات يعذر الجاهل فيها بجهله، لأن صفات الله لا تثبت إلا من جهة الخبر عن الله أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم، وهي باقي الصفات، كما قرر ذلك الإمام الشافعي رحمه الله، في عقيدته المشهورة.

والدليل على ذلك ما رواه أحمد وغيره أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: مَهْمَا يَكْتُمِ النَّاسُ يَعْلَمْهُ اللهُ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم .. الحديث

فلم تكفر بقولها هذا قبل إخبار النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان العبد يكفر قبل العلم بها لكان لزاما على النبي أن يخبر به الناس ويحذرهم منه كما أخبرهم عن الشرك وحذرهم منه قبل أن يبدأوه بالسؤال.

ومثله قصة الرجل الذي أمر أبناءه أن يحرقوه ويذروه في الهواء والماء وظن أن الله لن يقدر عليه فكان هذا منه شكاً في قدرة الله تعالى، فلم يؤاخذه الله بذلك عز وجل رحمة منه به، فدلت هذه الأخبار على أن الجاهل بذلك لا يكفر إلا بعد قيام الحجة والله أعلم وأحكم.

وكذلك من تأولها على غير ظاهرها، أو فوّض علم معانيها لله تعالى، وأنكر أن يكون معناها الظاهر غير مراد، هروباً من التمثيل بزعمه، متأثراً بقول من سبقه، ملبّساً عليه ببعض المتشابه من آيات القرآن، فلا يكفر حتى تقام عليه الحجة وتبيّن له الأدلة.

وعلى هذا فإن معطلة الصفات كالجهمية والمعتزلة والكلابية والأشاعرة والماتريدية ومن سلك سبيلهم، يكفرون بعد إقامة الحجة عليهم ببيان الأدلة من الكتاب والسنة، ما لم تكن هناك شبهة غلبت عليهم من كتاب الله أو من سنة رسول الله.

ومن الكفر الأكبر أن يسب الله عز وجل أو يسب رسوله أو أحداً من أنبيائه، أو أن يكذب بشيء من القرآن أو يكذب بشيء من السنة الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم عالماً متعمداً فإن كان جاهلا أو متأولا تأويلا خاطئا بيّن له وأقيمت عليه الحجة قبل الحكم عليه.

وأما الصلاة فتاركها على حالات:

الأولى : أن يجحد وجوبها فهذا يكفر بعد إقامة الحجة عليه إن كان جاهلا بأنها فرض في كتاب الله وسنة رسوله.

والثانية: أن يقر بوجوبها ولكنه لا يصلي أبداً تهاونا وكسلا فهذا كافر بنص أحاديث رسول الله، ومثله من كان أكثر وقته لا يصلي.

والثالثة: أن يقر بوجوبها ولكنه يصلي أحيانا ويدع أحيانا فهذا اختلف في حكمه فقيل يكفر وقيل لا يكفر وقد ورد حديث عن النبي فيه إشارة أنه لا يكفر ولكنه ضعيف الإسناد، والله أعلم بحاله.

والرابع: أن يقر بوجوبها ويحافظ على صلاتها ولكنه يؤخرها عن وقتها، فهذا لا يكفر بنص أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأما باقي أركان الإسلام وهي: الزكاة والصوم والحج فتركها أيضا على حالات:

الأولى: أن يجحد وجوبها فهذا يكفر بعد إقامة الحجة عليه إن كان جاهلا.

الثانية: أن لا يجحد وجوبها ولكنه قال لا أزكي أبدا بخلا بماله أو قال لا أصوم أبدا ولا أحج أبدا تهاونا وكسلا فقيل يكفر وقيل لا يكفر والله أعلم.

الثالثة: أن لا يجحد وجوبها ولكنه يزكي أحيانا ويدع أحيانا أخرى ويصوم أحيانا ويدع أحيانا أخرى وينوي الحج ولكنه يسوّف حتى مات قبل أن يحج فهذا لا يكفر وإنما عاصي لله عز وجل.

وأما باقي فروض الدين ونواهيه فلا يكفر المخالف فيها إلا بعد قيام الحجة بالعلم بها مع استحلاله لمخالفته لها فإن تركها عالماً بها من غير استحلال – أي مقراً بأن ما وقع فيه مخالفة للشرع – فهو عاصٍ ومرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب.

والدليل ماروي عن عبدالله بن شقيق رحمه الله قال : "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة".

رواه الترمذي في جامعه والمروزي في تعظيم قدر الصلاة.

والله وحده أعلم وأحكم

تنبيه: الحد بين الإسلام والكفر يجب أن يتعلمه الصغير والكبير والمبتدئ والمتضلع فالتهويل من التكفير أخرج لنا المرجئة الذين يرون أن كل من نطق الشهادتين مسلم وإن جاء بجميع نواقض الإسلام والتهاون في التكفير أخرج لنا الخوارج الذين يكفرون بالذنوب والأوهام فتنبهوا.

كما أن إقامة الحجة لا تحتاج إلى أن تشق القمر نصفين أو تفرق البحر فرقين يكفي أن تبين الحق للمخالف بالأدلة من الكتاب والسنة فإن أعرض فقد أهلك نفسه.

ما هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها؟

قال تعالى في محكم التنزيل، في سورة الروم: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)} [الروم].

قوله: (فطرة الله) أي: خلق الله الذي خلقهم عليها، وهي الإسلام.

وقوله: (لا تبديل لخلق الله) أي: لا تغيّروا خلق الله تعالى الذي خلقهم عليه.

عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من مولود إلا يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تحسون فيها من جدعاء ، ثم يقول : {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.

رواه البخاري ومسلم.

قلت: ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: "ويؤسلمانه" فالإسلام هو دين الفطرة.

وعن عياض بن حمار قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن الله جل وعلا أمرني أن أعلمكم مما علمني يومي هذا، وإنه، قال لي: إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإن كل ما أنحلت عبادي فهو لهم حلال، وإن الشياطين أتتهم فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم الذي أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا .. الحديث.

رواه مسلم بإسناد صحيح، وإسنادين فيهما ضعف، والغريب أن الإمام مسلم، قدّم ذكر أحد الإسنادين الضعيفين، ثم أعقب بعد ذكر الحديث بذكر الإسناد الصحيح والإسناد الضعيف الأخر!

قلت: وهذا لا يعني أن المولود يولد يوم أن يولد عالماً بجميع أحكام الشريعة الإسلامية، بل المراد بذلك، أن المولود يكون نقيّاً من الشرك، وإذا سلِم من أن يؤثر على فطرته، فإنه لا يبلغ سنّ التمييز حتى يدرك ثلاثة مسائل: أن له ربّاً، وأن ربّه في السماء، وأن ربّه هو الملجأ والملاذ عند النوائب.

وقد لا يعرف اسمه الله تعالى، ولكن يعرف أن له ربّاً وإلهاً، فيقول: يا إلهي أغثني أو أعني أو أعذني أو أرزقني أو أشفني، ونحو ذلك.

وما يترتب على ذلك، من معرفة أن الله تعالى هو المتفرد بالملك والخلق والأمر والتدبير، لأنه لا يستقيم الإيمان بأن الله تعالى هو الربّ وهو الملجأ والملاذ عند النوائب، إلا بالإقرار بتفرد الله تعالى بالملك والخلق والأمر والتدبير، سواء صرّح العبد بذلك أو لم يصرّح، اعتقاده وفعله دلّا على ذلك، وإن لم يستحضر هو ذلك أو يتفوّه به.

وأما معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته، ومعرفة أحكام الشريعة، فلا يكون ذلك إلا بالخبر عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم.

مسائل في القدر

مسائل في القدر

انفرد هذا البحث بمسائل هامة لم تذكر في أي كتاب أخر

للتحميل نسخة pdf اضغط هنا

مسائل صفات الله عز وجل

صفات الله عز وجل

بفهم العرب الأمِّيَِين الذين نزل الوحيان بلغتهم

انفرد هذا البحث بمسائل هامة لم تذكر في أي كتاب أخر

لدخول المدونة اضغط هنا

مسائل توحيد الربوبية والألوهية

كتاب التوحيد

انفرد هذا البحث بمسائل هامة لم تذكر في أي كتاب أخر

لدخول المدونة أضغط هنا